أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه وسلم.
:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " {آل عمران : 102}
:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " { النساء : 1}
:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" { الأحزاب : 70 -71}
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
قال تعالى:"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)"{الفاتحة1-7}
يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- قوله تعالى :" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)"{الفاتحة:6} فالهداية: هي البيان والدلالة ،ثم التوفيق والإلهام ، وهو بعد البيان والدلالة ،ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق، وجعل الإيمان في القلب ،وتحبيبه إليه ،وتزيينه في القلب ،وجعله مُؤْثِراً له، راضيًا به ،راغبًا فيه.
وهما هدايتان مستقلتان ، لا يحصل الفلاح إلا بهما ،وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلًا وإجمالًا وإلهامنا له ، وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرًا وباطنًا، ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم، ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: إذا كنا مهتدين ،فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم ،وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلًا مثل ما نريده،
أو أكثر منه، أو دونه ،وما لا نقدر عليه -مما نريده- كذلك ، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله ، فأمر يفوت الحصر ،ونحن محتاجون إلى الهداية التامة ،فمن كملت له هذه الأمور ،كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.
وللهداية مرتبة أخرى -وهي آخر مراتبها- وهي: الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة ،وهو الصراط الموصل إليها ،فمن هُديَّ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم ، الذي أرسل به رسله ،وأنزل به كتبه ، هُديَّ هناك إلى الصراط المستقيم ،الموصل إلى جنته ودار ثوابه ،وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار ،يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم ،وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط ،فمنهم من يمر كالبرق ،ومنهم من يمر كالطرف ،ومنهم من يمر كالريح ،ومنهم من يمر كشدَّ الركاب ،ومنهم من يسعى سعيًا ،ومنهم من يمشي مشيًا ،ومنهم من يحبوا حبوًا ،ومنهم المخدوش المُسَلَّم ،ومنهم المكردس في النار ،فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا ،حذو القذة بالقذة "(1) جَزَاءً وِفَاقًا "{النبأ:26} " هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "{النمل:90}.
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم ، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط ،تخطفه وتعوقه عن المرور عليه ،فإن كثرت هنا وقويت، فكذلك هي هناك ." وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ "{فصلت:46} فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير ،والسلامة من كل شر.(2)
أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم
(1)تحقيق التوحيد :
لقوله تعالى لرسوله :"قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
ولقوله تعالى عن عيسى لقومه :" أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)"{آل عمران:49-51}
ولقوله تعالى عن عبده ورسوله عيسى :"قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ"{مريم:30-36}
ولقوله تعالى:"وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64){الزخرف:63-64}
ولقوله تعالى:"أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)"{يس: 60-61}
ولقوله تعالى:" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)"{الأنعام:82}
وعَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ :"الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ "لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ" بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ "يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".(3)
ولقوله تعالى :"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)"{النحل:36}
ولقوله تعالى:" قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) "{الأنعام :71}
وفي تفسير الجلالين:" قُلْ أَنَدْعُو " أنعبد " مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا " بعبادته " وَلَا يَضُرُّنَا " بتركها وهو الأصنام "وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا" نرجع مشركين " بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ " إلى الإسلام " كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ " أضلته " الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ " متحيرًا لا يدري أين يذهب حال من الهاء " لَهُ أَصْحَابٌ " رفقة " يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى " أي ليهدوه الطريق يقولون له " ائْتِنَا " فلا يجيبهم فيهلك ،والاستفهام للإنكار ،وجملة التشبيه حال من ضمير نُرد " قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى " الذي هو الإسلام " هُوَ الْهُدَى " وما عداه ضلال.
"وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ " أي بأن نسلم " لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ".
ولقوله تعالى :"قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)"{الأنعام:56}
ولقوله تعالى:"وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18){الزمر:17}
يقول العلامة السعدي-رحمه الله- : لما ذكر حال المجرمين ذكر حال المنيبين وثوابهم، فقال: "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا " والمراد بالطاغوت في هذا الموضع، عبادة غير اللّه، فاجتنبوها في عبادتها. وهذا من أحسن الاحتراز من الحكيم العليم، لأن المدح إنما يتناول المجتنب لها في عبادتها.
"وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ " بعبادته وإخلاص الدين له، فانصرفت دواعيهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام، ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات، " لَهُمُ الْبُشْرَى" التي لا يقادر قدرها، ولا يعلم وصفها، إلا من أكرمهم بها، وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، والعناية الربانية من اللّه، التي يرون في خلالها، أنه مريد لإكرامهم في الدنيا والآخرة، ولهم البشرى في الآخرة عند الموت، وفي القبر، وفي القيامة، وخاتمة البشرى ما يبشرهم به الرب الكريم، من دوام رضوانه وبره وإحسانه وحلول أمانه في الجنة.
ولما أخبر أن لهم البشرى، أمره اللّه ببشارتهم، وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال: "فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ "
وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام اللّه وكلام رسوله، كما قال في هذه السورة: " اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا " الآية.
وفي هذه الآية نكتة، وهي: أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأنه قيل: هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب، وحتى نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي الألباب؟
قيل: نعم، أحسنه ما نص اللّه عليه :" اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا " الآية.
"الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ " لأحسن الأخلاق والأعمال :" وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ " أي: العقول الزاكية.
ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره على ما سواه، وهذا علامة العقل؛ بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين الأقوال، حسنها، وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذي يميز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعًا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل.
توحيد الله تعالى على رأس أعمال الصراط المستقيم:
وقوله تعالى :"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) "{الأنعام:151-153}
وقوله تعالى:"فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)"{الأنعام:125-126}
وقوله تعال:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33){ التوبة:33}،و{الصف:9}
وقوله تعالى:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28){الفتح:28}.
وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:" أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ ،وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ،وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ،وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا،وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ..."(4) الحديث
مَعْنَى " نَحَلْته " أَعْطَيْته ، وَفِي الْكَلَام حَذْف ، أَيْ : قَالَ اللَّه تَعَالَى : كُلّ مَال أَعْطَيْته عَبْدًا مِنْ عِبَادِي فَهُوَ لَهُ حَلَال ، وَالْمُرَاد إِنْكَار مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسهمْ مِنْ السَّائِبَة وَالْوَصِيلَة وَالْبَحِيرَة وَالْحَامِي وَغَيْر ذَلِكَ ، وَأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِمْ ، وَكُلّ مَال مَلَكَهُ الْعَبْد فَهُوَ لَهُ حَلَال ، حَتَّى يَتَعَلَّق بِهِ حَقّ .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء كُلّهمْ "
أَيْ : مُسْلِمِينَ ، وَقِيلَ : طَاهِرِينَ مِنْ الْمَعَاصِي ، وَقِيلَ : مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْهِدَايَة ، وَقِيلَ : الْمُرَاد حِين أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْد فِي الذَّرّ ، وَقَالَ : " أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى" .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينهمْ "
هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا " فَاجْتَالَتْهُمْ " بِالْجِيمِ ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ ، وَعَنْ رِوَايَة الْحَافِظ أَبِي عَلِيّ الْغَسَّانِيّ " فَاخْتَالَتْهُمْ " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة . قَالَ : وَالْأَوَّل أَصَحّ وَأَوْضَح ، أَيْ : اِسْتَخَفُّوهُمْ فَذَهَبُوا بِهِمْ وَأَزَالُوهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ ، وَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الْبَاطِل ، كَذَا فَسَّرَهُ الْهَرَوِيُّ وَآخَرُونَ ، وَقَالَ شَمِر : اِجْتَالَ الرَّجُل الشَّيْء ذَهَبَ بِهِ ، وَاجْتَالَ أَمْوَالهمْ سَاقَهَا ، وَذَهَبَ بِهَا ، قَالَ الْقَاضِي : وَمَعْنَى " فَاخْتَالُوهُمْ " بِالْخَاءِ عَلَى رِوَايَة مَنْ رَوَاهُ ، أَيْ : يَحْبِسُونَهُمْ عَنْ دِينهمْ ، وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ .
قَوْله : " وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى نَظَرَ إِلَى أَهْل الْأَرْض فَمَقَتَهُمْ عَرَبهمْ وَعَجَمهمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب "
الْمَقْت : أَشَدّ الْبُغْض ، وَالْمُرَاد بِهَذَا الْمَقْت وَالنَّظَر مَا قَبْل بَعْثَة رَسُول اللَّه .
وَالْمُرَاد بِبَقَايَا أَهْل الْكِتَاب ،الْبَاقُونَ عَلَى التَّمَسُّك بِدِينِهِمْ الْحَقّ مِنْ غَيْر تَبْدِيل .
تحقيق الإيمان بأركانه وعمل الصالحات:
لقوله تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)"{يونس:9}
يقول العلامة السعدي في" تفسيره" : يقول تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أي: جمعوا بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة.
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي: بسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال: " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ " الجارية على الدوام " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.
(2)الهداية بالقرآن :
قال تعالى:"الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ"{البقرة:1-2}
وقوله تعالى:"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"{البقرة:38}
وقوله تعالى:"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ"{البقرة:185}
وقوله تعالى:" وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) {آل عمران:72-74}
وقال تعالى:":"وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"{الأعراف:52}
وقوله تعالى:"قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى "{طه:123}
وقال تعالى:"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"{الإسراء:9}
وقال تعالى:"طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ"{النمل:2}
وقال تعالى:"الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ"{لقمان:1-3}
وقال تعالى:"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ".{المائدة:15-16}
وقال تعالى:"أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ "{الزمر:22-23}
ولقوله تعالى:"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"{الشورى:52}
ولقوله تعالى:"لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"{النور:46}
ولقوله تعالى:"وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {الحج:54}(54)
وقوله تعالى:"{ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ } ألهموا .وقال ابن أبي خالد: إلى القرآن. (5)
ويقول الإمام بن حجر- رحمه الله-:وفي قوله تعالى :"وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ"
قَوْله : "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّب مِنْ الْقَوْل ": أُلْهِمُوا إِلَى الْقُرْآن .
سَقَطَ قَوْله : " إِلَى الْقُرْآن " لِغَيْرِ أَبِي ذَرّ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيِّ " وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّب : أُلْهِمُوا " وَقَالَ اِبْن أَبِي خَالِد : " إِلَى الْقُرْآن ، وَهُدُوا إِلَى صِرَاط الْحَمِيد : الْإِسْلَام " وَهَذَا هُوَ التَّحْرِير .
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّب مِنْ الْقَوْل " قَالَ : أُلْهِمُوا .
وَرَوَى اِبْن الْمُنْذِر مِنْ طَرِيق سُفْيَان عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد فِي قَوْله : " إِلَى الطَّيِّب مِنْ الْقَوْل " قَالَ : الْقُرْآن : وَفِي قَوْله : " وَهُدُوا إِلَى صِرَاط الْحَمِيد " : الْإِسْلَام .(6)
وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ قَالَ:" إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ،كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ ،فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ،وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا ،وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى ،إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً ،فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ ،فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ،وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ،وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".(7)
ولقوله :" وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ ، مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ ، كِتَابُ اللَّهِ".(8)
وقوله :" أَمَّا بَعْدُ ،أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ! فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا :كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ ،فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ "- حَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ - ثُمَّ قَالَ:" وَأَهْلُ بَيْتِي ،أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي..."
وفي رواية:":" أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ ،مَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى ،وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ ،وَفِيهِ ،فَقُلْنَا: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟
وفي رواية:" كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ ،مَنْ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ عَلَى الْهُدَى ،وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ ". (9)
وقوله صلى الله عليه وسلم :"كِتَابُ الله هُوَ حَبْلُ الله المَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ".
وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ ،وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ ،فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا ، وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ.(10)
القرآن هو الداعي على رأس الصراط المستقيم :
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلاَبِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ :"ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلاَ تَتَفَرَّجُوا ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ ، قَالَ : وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ، وَالصَّرِاطُ الإِسْلاَمُ ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ ، تَعَالَى ، وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ ، تَعَالَى ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ- ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ".(11)
وَعَنْ حُذَيْفَةَ , قَالَ:كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ، عَنِ الْخَيْرِ ، وَأَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْخَيْرَ لَنْ يَسْبِقَنِي ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : يَا حُذَيْفَةُ ، تَعَلَّمْ كِتَابَ اللهِ ، وَاتَّبِعْ مَا فِيهِ ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : فِتْنَةٌ وَشَرٌّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الشَّرِّ خَيْرٌ ؟ قَالَ : يَا حُذَيْفَةُ ، تَعَلَّمْ كِتَابَ اللهِ ، وَاتَّبِعْ مَا فِيهِ ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الشَّرِّ خَيْرٌ ؟ قَالَ : هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ ، وَجَمَاعَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، الْهُدْنَةُ عَلَى دَخَنٍ مَا هِيَ ؟ قَالَ : لاَ تَرْجِعُ قُلُوبُ أَقْوَامٍ عَلَى الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : يَا حُذَيْفَةُ ، تَعَلَّمْ كِتَابَ اللهِ ، وَاتبِعْ مَا فِيهِ ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ ، عَلَيْهَا دُعَاةٌ عَلَي أَبْوَابِ اَلنَّارِ ، وَأَنْتَ إِنْ تَمُوتَ ، يَا حُذَيْفَةُ ، وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلٍ ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ.(12)
وعن الحارث قال: دخلت المسجد، إذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليًا ، فقلت يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث، قال وقد فعلوها؟ قلت نعم، قال أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله، قال: إنها سَتَكونُ فِتْنَةٌ "قِيلَ:فمَا المَخْرَجُ مِنها؟ قالَ:" كِتابُ الله ،فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكمْ ،وَخَبَرُ مَنْ بَعْدَكمْ ،وحُكمُ ما بَيْنَكمْ ،هوَ الفَصْلُ ليْسَ بالهَزْلِ، مَنْ تَرَكهُ مِنْ جبَّارٍ قَصَمهُ الله ،ومَنِ ابْتَغَى الهُدَى في غَيْرِهِ أضَلّهُ الله ،وَهوَ حَبْلُ الله المَتِينُ ،وهُوَ الذِّكرُ الحَكيمُ ،وهوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هوَ الذِي لا تَزِيغُ بهِ الأهْواءُ ،ولا تَشْبَعُ مِنهُ العُلَماءُ ،ولا تَلْتَبِسُ بهِ الأَلْسُنُ ،ولا نخْلَقُ عَنِ الرَّدِّ ،
ولا تَنْقَضِي عَجائِبُهُ ،هوَ الذي لم تفُتْهُ الجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ عن أنْ قالوا:" إِنَّا سَمِعْنا قرْآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرُّشْدِ "مَنْ قالَ به صَدَقَ ،ومَنْ حَكَمَ به عَدَلَ ،ومَنْ عَمِلَ به أُجِرَ ،ومَنْ دَعا إليه هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " (13)
القرآن من أهم أسباب معافاة القلب من أمراض الشهوات والشبهات :
لقوله تعالى:":"يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ "{يونس:57}
وقوله تعالى:"قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ"{فصلت:44}
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ:أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ آيَةً ، وَأَقْرَأَهَا آخَرَ غَيْرَ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ ، فَقُلْتُ : مَنْ أَقْرَأَكَهَا ؟ قَالَ : أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ، قُلْتُ : وَاللَّهِ ، لَقَدْ أَقْرَأَنِيهَا كَذَا وَكَذَا ، قَالَ أُبَيٌّ : فَمَا تَخَلَّجَ فِي نَفْسِي مِنَ الإِسْلاَمِ مَا تَخَلَّجَ يَوْمَئِذٍ ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَمْ تُقْرِئْنِي آيَةَ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَإِنَّ هَذَا يَدَّعِي أَنَّكَ أَقْرَأْتَهُ كَذَا وَكَذَا ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي ، فَذَهَبَ ذَاكَ ، فَمَا وَجَدْتُ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَتَانِي جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اقْرَأ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ : اسْتَزِدْهُ ، قَالَ : اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ ، قَالَ : اسْتَزِدْهُ ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ ، قَالَ : كُلٌّ شَافٍ كَافٍ.(14)
- وفي رواية : أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.
وقال ابن القيم : جماع أمراض القلب الشبهات والشهوات والقرآن شفاء لهما ففيه من البينات والبراهين القطيعة والدلالة على المطالب العالية ما لم يتضمنه كتاب سواه فهو الشفاء بالحقيقة لكن ذلك موقوف على فهمه وتقريره المراد فيه.
وعن قتادة ، قال : « ما جالس أحد القرآن إلا فارقه بزيادة أو نقصان » . قال : ثم قرأ : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا "{الإسراء: 82}.(15)
(3)متابعة النبي:
لقوله تعالى لرسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم :"قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
وقوله تعالي : " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) "{الشورى :52}
ولقوله تعالى : " وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا "{النور :54}
ولقوله تعالى :"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)"الأعراف:158}
ولقوله تعالى : " وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) " {النساء :66-68}
ولقوله تعالى : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) " (الأنعام : 153)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ ،وَعَلاَ صَوْتُهُ ،وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ :« صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ». وَيَقُولُ « بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ: « أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ،وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ،وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». ثُمَّ يَقُولُ « أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ،مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ ،وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَإِلَىَّ وَعَلَىَّ ».(16)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قال: قَالَ :" فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً ، فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ ، وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ".(17)
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ. قَالَ: أَجَلْ ،وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ :"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ،وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي ،سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ ،لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ،وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ،وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ،وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا ،وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا".(18)
الشاهد قوله:" وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ ".
وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدْ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:"إِنِّي قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا , لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي مِنْكُمْ إِلا هَالِكٌ، وَأَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَإِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ، وَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا".(19)
قال الإمام الشاطبي -رحمه الله- : الصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة .
ويقول فضيلة الشيخ هاني الحاج : فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمدًا بفعل ما أمر، وترك ما حظر ، وتصديقه فيما أخبر ، لا طريق إلى الله إلا ذلك ، وهذا سبيل أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين ، وكل ما خالف ذلك فهو من طريق أهل الغي والضلال ، وقد نزه الله نبيه
عن هذا وهذا ، فقال تعالى : "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (2) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" { النجم :1-4}
وذكر الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان أن رجلًا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم ؟ قال: تركنا محمد في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط آنتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: " وأن هذا صراطي مستقيمًا " الآية.
وقال عبد الله بن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع ، وعليكم بالعتيق.
وقال مجاهد في قوله: " ولا تتبعوا السبل " قال: البدع.
قال ابن شهاب: وهذا كقوله تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا" . آية.
فالهرب الهرب، والنجاة النجاة ! والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم، الذي سلكه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح.
يقول الشيخ عبد الرءوف محمد عثمان: إذا كان الإنسان بفطرته يحب من نصحه أو أحسن إليه مرة أو مرتين، فما بالنا بالناصح الأمين البر الشفيق على أمته ،والذي كانت حياته كلها نصحًا لأمته ،وتعليمًا لها ،وتزكية لأرواحها وأبدانها ، وهو الذي هدى البشرية- بإذن ربها- إلى الصراط المستقيم ،بعدما كانت تعيش في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء ، ولولا رحمة الله للناس ببعثته ورسالته لعاش الناس في بحار الظلمات تتقاذفهم الأمواج فلا يجدون إلى ساحل الهداية سبيلًا .
يقول الله عز وجل : "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "
وقال تعالى : "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ".
لأجل هذا كانت المنة ببعثة النبي عظيمة ، والنعمة بذلك جسيمة . ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا من أدرك الفرق بين الهدى والضلال وبين الجاهلية والإسلام وبين رضى الله وسخطه .
فمن عرف هذا الفرق وأدركه إدراكا يقينيا علم عظم هذه النعمة التي لا تعادلها نعمة على ظهر الأرض ، وأحب الرسول بكل قلبه وآثر حب الله ورسوله على ما سواهما .
ولأجل هذا كان الصحابة أشد الخلق حبًا لرسول الله ؛ لأنهم عاشوا الجاهلية وعاينوها عن قرب ،فلما جاء الإسلام وأدركوا الفرق بين الظلمات والنور ،ازداد تمسكهم بالإسلام ،واشتد حبهم على مر الأيام لهذا النبي العظيم.(20)
وقال الشاعر :
ليس الطريق سوى طريق محمد فهي الصراط المستقيم لمن سلك
من يمشى في طرقاته فقد اهتدى سبل الرشاد ومن يزغ فقد هلك .(21)
(4)الإيمان بالغيب:
(5)إقام الصلاة :
(6)إيتاء الزكاة :
(7)خشيـة الله :
(8)صلة الرحم :
لقوله تعالى:"الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)"{البقرة:1-5}
ويقول الإمام السعدي –رحمه الله – في تفسير قوله تعالى:"{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نَره ولم نُشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله ، فهذا الإيمان الذي يُميَّز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به ، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده أو لم يشاهده ،وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقله وفهمه، بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية ؛ لأن عقولهم القاصرة المُقصِرة لم تهتدِ إليها، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ،ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامُهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب، {الإيمان ب}جميعُ ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، {وما أخبرت به الرسل من ذلك}فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها.
ولقوله تعالى :"إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)"{التوبة:18}
يقول الإمام ابن كثير في "تفسيره"
وقوله: " وَأَقَامَ الصَّلاةَ " أي: التي هي أكبر عبادات البدن، " وَآتَى الزَّكَاةَ " أي: التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، "وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ " أي: ولم يخف إلا من الله تعالى، ولم يخش سواه، " فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ "
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " يقول: من وحد الله، وآمن باليوم الآخر يقول: من آمن بما أنزل الله، " وَأَقَامَ الصَّلاةَ " يعني: الصلوات الخمس، " وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ " يقول: لم يعبد إلا الله -ثم قال: " فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ " يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: " عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" {الإسراء:79} يقول: إن ربك سيبعثك مقاما محمودًا وهي الشفاعة، وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله: و"عسى" من الله حق.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ سَرَّه
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه وسلم.
:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " {آل عمران : 102}
:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " { النساء : 1}
:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" { الأحزاب : 70 -71}
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
قال تعالى:"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)"{الفاتحة1-7}
يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- قوله تعالى :" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)"{الفاتحة:6} فالهداية: هي البيان والدلالة ،ثم التوفيق والإلهام ، وهو بعد البيان والدلالة ،ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق، وجعل الإيمان في القلب ،وتحبيبه إليه ،وتزيينه في القلب ،وجعله مُؤْثِراً له، راضيًا به ،راغبًا فيه.
وهما هدايتان مستقلتان ، لا يحصل الفلاح إلا بهما ،وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلًا وإجمالًا وإلهامنا له ، وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرًا وباطنًا، ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم، ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: إذا كنا مهتدين ،فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم ،وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلًا مثل ما نريده،
أو أكثر منه، أو دونه ،وما لا نقدر عليه -مما نريده- كذلك ، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله ، فأمر يفوت الحصر ،ونحن محتاجون إلى الهداية التامة ،فمن كملت له هذه الأمور ،كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.
وللهداية مرتبة أخرى -وهي آخر مراتبها- وهي: الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة ،وهو الصراط الموصل إليها ،فمن هُديَّ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم ، الذي أرسل به رسله ،وأنزل به كتبه ، هُديَّ هناك إلى الصراط المستقيم ،الموصل إلى جنته ودار ثوابه ،وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار ،يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم ،وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط ،فمنهم من يمر كالبرق ،ومنهم من يمر كالطرف ،ومنهم من يمر كالريح ،ومنهم من يمر كشدَّ الركاب ،ومنهم من يسعى سعيًا ،ومنهم من يمشي مشيًا ،ومنهم من يحبوا حبوًا ،ومنهم المخدوش المُسَلَّم ،ومنهم المكردس في النار ،فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا ،حذو القذة بالقذة "(1) جَزَاءً وِفَاقًا "{النبأ:26} " هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "{النمل:90}.
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم ، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط ،تخطفه وتعوقه عن المرور عليه ،فإن كثرت هنا وقويت، فكذلك هي هناك ." وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ "{فصلت:46} فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير ،والسلامة من كل شر.(2)
أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم
(1)تحقيق التوحيد :
لقوله تعالى لرسوله :"قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
ولقوله تعالى عن عيسى لقومه :" أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)"{آل عمران:49-51}
ولقوله تعالى عن عبده ورسوله عيسى :"قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ"{مريم:30-36}
ولقوله تعالى:"وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64){الزخرف:63-64}
ولقوله تعالى:"أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)"{يس: 60-61}
ولقوله تعالى:" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)"{الأنعام:82}
وعَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ :"الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ "لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ" بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ "يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".(3)
ولقوله تعالى :"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)"{النحل:36}
ولقوله تعالى:" قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) "{الأنعام :71}
وفي تفسير الجلالين:" قُلْ أَنَدْعُو " أنعبد " مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا " بعبادته " وَلَا يَضُرُّنَا " بتركها وهو الأصنام "وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا" نرجع مشركين " بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ " إلى الإسلام " كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ " أضلته " الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ " متحيرًا لا يدري أين يذهب حال من الهاء " لَهُ أَصْحَابٌ " رفقة " يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى " أي ليهدوه الطريق يقولون له " ائْتِنَا " فلا يجيبهم فيهلك ،والاستفهام للإنكار ،وجملة التشبيه حال من ضمير نُرد " قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى " الذي هو الإسلام " هُوَ الْهُدَى " وما عداه ضلال.
"وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ " أي بأن نسلم " لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ".
ولقوله تعالى :"قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)"{الأنعام:56}
ولقوله تعالى:"وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18){الزمر:17}
يقول العلامة السعدي-رحمه الله- : لما ذكر حال المجرمين ذكر حال المنيبين وثوابهم، فقال: "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا " والمراد بالطاغوت في هذا الموضع، عبادة غير اللّه، فاجتنبوها في عبادتها. وهذا من أحسن الاحتراز من الحكيم العليم، لأن المدح إنما يتناول المجتنب لها في عبادتها.
"وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ " بعبادته وإخلاص الدين له، فانصرفت دواعيهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام، ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات، " لَهُمُ الْبُشْرَى" التي لا يقادر قدرها، ولا يعلم وصفها، إلا من أكرمهم بها، وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، والعناية الربانية من اللّه، التي يرون في خلالها، أنه مريد لإكرامهم في الدنيا والآخرة، ولهم البشرى في الآخرة عند الموت، وفي القبر، وفي القيامة، وخاتمة البشرى ما يبشرهم به الرب الكريم، من دوام رضوانه وبره وإحسانه وحلول أمانه في الجنة.
ولما أخبر أن لهم البشرى، أمره اللّه ببشارتهم، وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال: "فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ "
وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام اللّه وكلام رسوله، كما قال في هذه السورة: " اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا " الآية.
وفي هذه الآية نكتة، وهي: أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأنه قيل: هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب، وحتى نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي الألباب؟
قيل: نعم، أحسنه ما نص اللّه عليه :" اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا " الآية.
"الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ " لأحسن الأخلاق والأعمال :" وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ " أي: العقول الزاكية.
ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره على ما سواه، وهذا علامة العقل؛ بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين الأقوال، حسنها، وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذي يميز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعًا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل.
توحيد الله تعالى على رأس أعمال الصراط المستقيم:
وقوله تعالى :"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) "{الأنعام:151-153}
وقوله تعالى:"فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)"{الأنعام:125-126}
وقوله تعال:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33){ التوبة:33}،و{الصف:9}
وقوله تعالى:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28){الفتح:28}.
وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:" أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ ،وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ،وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ،وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا،وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ..."(4) الحديث
مَعْنَى " نَحَلْته " أَعْطَيْته ، وَفِي الْكَلَام حَذْف ، أَيْ : قَالَ اللَّه تَعَالَى : كُلّ مَال أَعْطَيْته عَبْدًا مِنْ عِبَادِي فَهُوَ لَهُ حَلَال ، وَالْمُرَاد إِنْكَار مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسهمْ مِنْ السَّائِبَة وَالْوَصِيلَة وَالْبَحِيرَة وَالْحَامِي وَغَيْر ذَلِكَ ، وَأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِمْ ، وَكُلّ مَال مَلَكَهُ الْعَبْد فَهُوَ لَهُ حَلَال ، حَتَّى يَتَعَلَّق بِهِ حَقّ .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء كُلّهمْ "
أَيْ : مُسْلِمِينَ ، وَقِيلَ : طَاهِرِينَ مِنْ الْمَعَاصِي ، وَقِيلَ : مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْهِدَايَة ، وَقِيلَ : الْمُرَاد حِين أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْد فِي الذَّرّ ، وَقَالَ : " أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى" .
قَوْله تَعَالَى : " وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينهمْ "
هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا " فَاجْتَالَتْهُمْ " بِالْجِيمِ ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ ، وَعَنْ رِوَايَة الْحَافِظ أَبِي عَلِيّ الْغَسَّانِيّ " فَاخْتَالَتْهُمْ " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة . قَالَ : وَالْأَوَّل أَصَحّ وَأَوْضَح ، أَيْ : اِسْتَخَفُّوهُمْ فَذَهَبُوا بِهِمْ وَأَزَالُوهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ ، وَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الْبَاطِل ، كَذَا فَسَّرَهُ الْهَرَوِيُّ وَآخَرُونَ ، وَقَالَ شَمِر : اِجْتَالَ الرَّجُل الشَّيْء ذَهَبَ بِهِ ، وَاجْتَالَ أَمْوَالهمْ سَاقَهَا ، وَذَهَبَ بِهَا ، قَالَ الْقَاضِي : وَمَعْنَى " فَاخْتَالُوهُمْ " بِالْخَاءِ عَلَى رِوَايَة مَنْ رَوَاهُ ، أَيْ : يَحْبِسُونَهُمْ عَنْ دِينهمْ ، وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ .
قَوْله : " وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى نَظَرَ إِلَى أَهْل الْأَرْض فَمَقَتَهُمْ عَرَبهمْ وَعَجَمهمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب "
الْمَقْت : أَشَدّ الْبُغْض ، وَالْمُرَاد بِهَذَا الْمَقْت وَالنَّظَر مَا قَبْل بَعْثَة رَسُول اللَّه .
وَالْمُرَاد بِبَقَايَا أَهْل الْكِتَاب ،الْبَاقُونَ عَلَى التَّمَسُّك بِدِينِهِمْ الْحَقّ مِنْ غَيْر تَبْدِيل .
تحقيق الإيمان بأركانه وعمل الصالحات:
لقوله تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)"{يونس:9}
يقول العلامة السعدي في" تفسيره" : يقول تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أي: جمعوا بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة.
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي: بسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال: " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ " الجارية على الدوام " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.
(2)الهداية بالقرآن :
قال تعالى:"الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ"{البقرة:1-2}
وقوله تعالى:"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"{البقرة:38}
وقوله تعالى:"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ"{البقرة:185}
وقوله تعالى:" وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) {آل عمران:72-74}
وقال تعالى:":"وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"{الأعراف:52}
وقوله تعالى:"قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى "{طه:123}
وقال تعالى:"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"{الإسراء:9}
وقال تعالى:"طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ"{النمل:2}
وقال تعالى:"الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ"{لقمان:1-3}
وقال تعالى:"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ".{المائدة:15-16}
وقال تعالى:"أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ "{الزمر:22-23}
ولقوله تعالى:"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"{الشورى:52}
ولقوله تعالى:"لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"{النور:46}
ولقوله تعالى:"وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {الحج:54}(54)
وقوله تعالى:"{ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ } ألهموا .وقال ابن أبي خالد: إلى القرآن. (5)
ويقول الإمام بن حجر- رحمه الله-:وفي قوله تعالى :"وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ"
قَوْله : "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّب مِنْ الْقَوْل ": أُلْهِمُوا إِلَى الْقُرْآن .
سَقَطَ قَوْله : " إِلَى الْقُرْآن " لِغَيْرِ أَبِي ذَرّ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيِّ " وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّب : أُلْهِمُوا " وَقَالَ اِبْن أَبِي خَالِد : " إِلَى الْقُرْآن ، وَهُدُوا إِلَى صِرَاط الْحَمِيد : الْإِسْلَام " وَهَذَا هُوَ التَّحْرِير .
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّب مِنْ الْقَوْل " قَالَ : أُلْهِمُوا .
وَرَوَى اِبْن الْمُنْذِر مِنْ طَرِيق سُفْيَان عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد فِي قَوْله : " إِلَى الطَّيِّب مِنْ الْقَوْل " قَالَ : الْقُرْآن : وَفِي قَوْله : " وَهُدُوا إِلَى صِرَاط الْحَمِيد " : الْإِسْلَام .(6)
وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ قَالَ:" إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ،كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ ،فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ،وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا ،وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى ،إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً ،فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ ،فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ،وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ،وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".(7)
ولقوله :" وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ ، مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ ، كِتَابُ اللَّهِ".(8)
وقوله :" أَمَّا بَعْدُ ،أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ! فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا :كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ ،فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ "- حَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ - ثُمَّ قَالَ:" وَأَهْلُ بَيْتِي ،أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي..."
وفي رواية:":" أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ ،مَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى ،وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ ،وَفِيهِ ،فَقُلْنَا: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟
وفي رواية:" كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ ،مَنْ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ عَلَى الْهُدَى ،وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ ". (9)
وقوله صلى الله عليه وسلم :"كِتَابُ الله هُوَ حَبْلُ الله المَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ".
وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ ،وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ ،فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا ، وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ.(10)
القرآن هو الداعي على رأس الصراط المستقيم :
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلاَبِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ :"ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلاَ تَتَفَرَّجُوا ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ ، قَالَ : وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ، وَالصَّرِاطُ الإِسْلاَمُ ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ ، تَعَالَى ، وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ ، تَعَالَى ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ- ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ".(11)
وَعَنْ حُذَيْفَةَ , قَالَ:كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ، عَنِ الْخَيْرِ ، وَأَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْخَيْرَ لَنْ يَسْبِقَنِي ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : يَا حُذَيْفَةُ ، تَعَلَّمْ كِتَابَ اللهِ ، وَاتَّبِعْ مَا فِيهِ ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : فِتْنَةٌ وَشَرٌّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الشَّرِّ خَيْرٌ ؟ قَالَ : يَا حُذَيْفَةُ ، تَعَلَّمْ كِتَابَ اللهِ ، وَاتَّبِعْ مَا فِيهِ ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الشَّرِّ خَيْرٌ ؟ قَالَ : هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ ، وَجَمَاعَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، الْهُدْنَةُ عَلَى دَخَنٍ مَا هِيَ ؟ قَالَ : لاَ تَرْجِعُ قُلُوبُ أَقْوَامٍ عَلَى الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : يَا حُذَيْفَةُ ، تَعَلَّمْ كِتَابَ اللهِ ، وَاتبِعْ مَا فِيهِ ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ ، عَلَيْهَا دُعَاةٌ عَلَي أَبْوَابِ اَلنَّارِ ، وَأَنْتَ إِنْ تَمُوتَ ، يَا حُذَيْفَةُ ، وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلٍ ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ.(12)
وعن الحارث قال: دخلت المسجد، إذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليًا ، فقلت يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث، قال وقد فعلوها؟ قلت نعم، قال أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله، قال: إنها سَتَكونُ فِتْنَةٌ "قِيلَ:فمَا المَخْرَجُ مِنها؟ قالَ:" كِتابُ الله ،فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكمْ ،وَخَبَرُ مَنْ بَعْدَكمْ ،وحُكمُ ما بَيْنَكمْ ،هوَ الفَصْلُ ليْسَ بالهَزْلِ، مَنْ تَرَكهُ مِنْ جبَّارٍ قَصَمهُ الله ،ومَنِ ابْتَغَى الهُدَى في غَيْرِهِ أضَلّهُ الله ،وَهوَ حَبْلُ الله المَتِينُ ،وهُوَ الذِّكرُ الحَكيمُ ،وهوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هوَ الذِي لا تَزِيغُ بهِ الأهْواءُ ،ولا تَشْبَعُ مِنهُ العُلَماءُ ،ولا تَلْتَبِسُ بهِ الأَلْسُنُ ،ولا نخْلَقُ عَنِ الرَّدِّ ،
ولا تَنْقَضِي عَجائِبُهُ ،هوَ الذي لم تفُتْهُ الجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ عن أنْ قالوا:" إِنَّا سَمِعْنا قرْآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرُّشْدِ "مَنْ قالَ به صَدَقَ ،ومَنْ حَكَمَ به عَدَلَ ،ومَنْ عَمِلَ به أُجِرَ ،ومَنْ دَعا إليه هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " (13)
القرآن من أهم أسباب معافاة القلب من أمراض الشهوات والشبهات :
لقوله تعالى:":"يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ "{يونس:57}
وقوله تعالى:"قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ"{فصلت:44}
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ:أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ آيَةً ، وَأَقْرَأَهَا آخَرَ غَيْرَ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ ، فَقُلْتُ : مَنْ أَقْرَأَكَهَا ؟ قَالَ : أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ، قُلْتُ : وَاللَّهِ ، لَقَدْ أَقْرَأَنِيهَا كَذَا وَكَذَا ، قَالَ أُبَيٌّ : فَمَا تَخَلَّجَ فِي نَفْسِي مِنَ الإِسْلاَمِ مَا تَخَلَّجَ يَوْمَئِذٍ ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَمْ تُقْرِئْنِي آيَةَ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَإِنَّ هَذَا يَدَّعِي أَنَّكَ أَقْرَأْتَهُ كَذَا وَكَذَا ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي ، فَذَهَبَ ذَاكَ ، فَمَا وَجَدْتُ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَتَانِي جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اقْرَأ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ : اسْتَزِدْهُ ، قَالَ : اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ ، قَالَ : اسْتَزِدْهُ ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ ، قَالَ : كُلٌّ شَافٍ كَافٍ.(14)
- وفي رواية : أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.
وقال ابن القيم : جماع أمراض القلب الشبهات والشهوات والقرآن شفاء لهما ففيه من البينات والبراهين القطيعة والدلالة على المطالب العالية ما لم يتضمنه كتاب سواه فهو الشفاء بالحقيقة لكن ذلك موقوف على فهمه وتقريره المراد فيه.
وعن قتادة ، قال : « ما جالس أحد القرآن إلا فارقه بزيادة أو نقصان » . قال : ثم قرأ : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا "{الإسراء: 82}.(15)
(3)متابعة النبي:
لقوله تعالى لرسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم :"قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
وقوله تعالي : " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) "{الشورى :52}
ولقوله تعالى : " وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا "{النور :54}
ولقوله تعالى :"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)"الأعراف:158}
ولقوله تعالى : " وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) " {النساء :66-68}
ولقوله تعالى : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) " (الأنعام : 153)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ ،وَعَلاَ صَوْتُهُ ،وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ :« صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ». وَيَقُولُ « بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ: « أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ،وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ،وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». ثُمَّ يَقُولُ « أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ،مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ ،وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَإِلَىَّ وَعَلَىَّ ».(16)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قال: قَالَ :" فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً ، فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ ، وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ".(17)
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ. قَالَ: أَجَلْ ،وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ :"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ،وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي ،سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ ،لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ،وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ،وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ،وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا ،وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا".(18)
الشاهد قوله:" وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ ".
وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدْ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:"إِنِّي قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا , لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي مِنْكُمْ إِلا هَالِكٌ، وَأَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَإِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ، وَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا".(19)
قال الإمام الشاطبي -رحمه الله- : الصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة .
ويقول فضيلة الشيخ هاني الحاج : فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمدًا بفعل ما أمر، وترك ما حظر ، وتصديقه فيما أخبر ، لا طريق إلى الله إلا ذلك ، وهذا سبيل أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين ، وكل ما خالف ذلك فهو من طريق أهل الغي والضلال ، وقد نزه الله نبيه
عن هذا وهذا ، فقال تعالى : "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (2) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" { النجم :1-4}
وذكر الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان أن رجلًا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم ؟ قال: تركنا محمد في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط آنتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: " وأن هذا صراطي مستقيمًا " الآية.
وقال عبد الله بن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع ، وعليكم بالعتيق.
وقال مجاهد في قوله: " ولا تتبعوا السبل " قال: البدع.
قال ابن شهاب: وهذا كقوله تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا" . آية.
فالهرب الهرب، والنجاة النجاة ! والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم، الذي سلكه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح.
يقول الشيخ عبد الرءوف محمد عثمان: إذا كان الإنسان بفطرته يحب من نصحه أو أحسن إليه مرة أو مرتين، فما بالنا بالناصح الأمين البر الشفيق على أمته ،والذي كانت حياته كلها نصحًا لأمته ،وتعليمًا لها ،وتزكية لأرواحها وأبدانها ، وهو الذي هدى البشرية- بإذن ربها- إلى الصراط المستقيم ،بعدما كانت تعيش في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء ، ولولا رحمة الله للناس ببعثته ورسالته لعاش الناس في بحار الظلمات تتقاذفهم الأمواج فلا يجدون إلى ساحل الهداية سبيلًا .
يقول الله عز وجل : "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "
وقال تعالى : "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ".
لأجل هذا كانت المنة ببعثة النبي عظيمة ، والنعمة بذلك جسيمة . ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا من أدرك الفرق بين الهدى والضلال وبين الجاهلية والإسلام وبين رضى الله وسخطه .
فمن عرف هذا الفرق وأدركه إدراكا يقينيا علم عظم هذه النعمة التي لا تعادلها نعمة على ظهر الأرض ، وأحب الرسول بكل قلبه وآثر حب الله ورسوله على ما سواهما .
ولأجل هذا كان الصحابة أشد الخلق حبًا لرسول الله ؛ لأنهم عاشوا الجاهلية وعاينوها عن قرب ،فلما جاء الإسلام وأدركوا الفرق بين الظلمات والنور ،ازداد تمسكهم بالإسلام ،واشتد حبهم على مر الأيام لهذا النبي العظيم.(20)
وقال الشاعر :
ليس الطريق سوى طريق محمد فهي الصراط المستقيم لمن سلك
من يمشى في طرقاته فقد اهتدى سبل الرشاد ومن يزغ فقد هلك .(21)
(4)الإيمان بالغيب:
(5)إقام الصلاة :
(6)إيتاء الزكاة :
(7)خشيـة الله :
(8)صلة الرحم :
لقوله تعالى:"الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)"{البقرة:1-5}
ويقول الإمام السعدي –رحمه الله – في تفسير قوله تعالى:"{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نَره ولم نُشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله ، فهذا الإيمان الذي يُميَّز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به ، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده أو لم يشاهده ،وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقله وفهمه، بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية ؛ لأن عقولهم القاصرة المُقصِرة لم تهتدِ إليها، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ،ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامُهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب، {الإيمان ب}جميعُ ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، {وما أخبرت به الرسل من ذلك}فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها.
ولقوله تعالى :"إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)"{التوبة:18}
يقول الإمام ابن كثير في "تفسيره"
وقوله: " وَأَقَامَ الصَّلاةَ " أي: التي هي أكبر عبادات البدن، " وَآتَى الزَّكَاةَ " أي: التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، "وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ " أي: ولم يخف إلا من الله تعالى، ولم يخش سواه، " فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ "
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " يقول: من وحد الله، وآمن باليوم الآخر يقول: من آمن بما أنزل الله، " وَأَقَامَ الصَّلاةَ " يعني: الصلوات الخمس، " وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ " يقول: لم يعبد إلا الله -ثم قال: " فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ " يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: " عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" {الإسراء:79} يقول: إن ربك سيبعثك مقاما محمودًا وهي الشفاعة، وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله: و"عسى" من الله حق.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ سَرَّه