كانت ميزة خطاب "جاك شيراك" السلبي الذي ألقى خلاله القنبلة الأخيرة للعام 2003 في 17 ديسمبر على العرب والمهاجرين، أنه أسقط رهان الليبرالية المطروح كشعار علماني محايد، وصار يقتحم الحريات الخاصة، ويتعقب السلوكيات الفردية. ولم يكن لخطاب الرئيس الفرنسي مدلول حضاري، أو قيمة إنسانية يدافع عنها، إنه سياق تصنيفي موجه، يحرض على التمييز الاجتماعي، والتفريق العنصري بين أبناء المجموعة الوطنية الواحدة، أو بينها وبين المهاجرين اللائذين بها؛ احتماء بقوانينها، وفرارا من الضيق الاقتصادي، والتضييق السياسي الذي صار حتمية من حتميات وجود العالم الثالث.
لقد كشف شيراك آنذاك البعد الحقيقي للعلمانية، وفضح منهجها الإقصائي الذي يلغي وجود المعتقدات الدينية، فأوقف بذلك الضجيج السائد حول الفكر البدائلي الذي كانت تجسده الأحلام العلمانية في زمان سقوط الإيديولوجيات، وهي بهذا الشكل التوتاليتاري المذكور، فقد طوق العقل العربي داخل جغرافيا المصطلح بشكل شمولي، فقرأ فيزيولوجيا مفردة العلمانية (إذا ما كانت عينها مفتوحة أم مكسورة)، وبحث في إيتيمولوجيا العبارة (هل هي من العلم بالمعنى الموضوعي، أم أنها معتقد ينافس كل معتقد)، وفحص أيديولوجيا الدلالة (إذا كانت مواقفية ترتطم بالدين، أم أنها مشروع ليبرالي ينتظم كل دين)، وقد غاب عن هذه التحريات والتحقيقات النظرية الإشكال الحيوي الذي تثيره المسألة العلمانية في العالم العربي من حيث علاقتها الالتباسية بالحقوق الاجتماعية وبالمعتقدات وبالمؤسسات. إنها تبدو من الأنساق الكبرى التي لا تقف على أرضية حيادية، ومواقف موضوعية تبرئها من الانحياز والانزياح الأيديولوجي.
فالعلمانية المتفرعة عن الأيديولوجيات اليسارية المنقرضة تظل حليفة دائمة للأنظمة القائمة تدفعها إلى ذلك عقلية انتفاعية خالصة، من أجل هذا لا تجيب عن القضايا المستعصية في البلاد العربية، والاستفهامات الملحة التي تفجر نفسها لتكشف التناقض بين الشعار والأداء، والخطابات الديماغوجية: هل الحرية الدينية المباحة والمفروضة تتماثل مع الحرية السياسية المفترضة؟ أم أن الليبرالية السياسية تبقى من التابوهات والممنوعات الأبدية؟ وهل يكون البرنامج السياسي ممارسة ديمقراطية واقعية تظل محايدة بإزاء الاختبارات الوطنية، ولو ناهضت السياسات العلمانية القائمة؟ أم أن البرنامج العلماني مجرد خفير وحارس لنظام دوغمائي منقفل يتمنى المصادرة والهيمنة على الزمان والمكان والإنسان؟.
واللافت أن السيد شيراك افتقد منطقه منطقية هذا السؤال، فمنع الحجاب باعتباره رمزًا دون أن يعرج على الرموز الفلسفية (الإلحاد مثلا)، والرموز السياسية (النازية والصهيونية) التي تعربد في المعاهد والجامعات والنقابات والإعلام، في حين أن قوانين عام 1936؛ نظرًا إلى العنف الذي ساد المؤسسات التعليمية بين اليمين واليسار، منعت إبداء كل رمز سياسي.
إننا وإن كنا لا نعبأ بالعلمانية العربية؛ لكونها مجرد مجاز سياسي (علمانوية) يتناظر مع ديمقراطية الأنظمة العربية الحاكمة التي تستتر بشعارات الموضة الكونية (الديمقراطية وحقوق الإنسان) لتخفي العجز والفراغ والفوضى، فإننا من قبيل الانتماء والمعايشة الميدانية، نقدر العلمانية الفرنسية حق قدرها، وإن نحن ناقشناها بعقل نقدي، لا هجاء فيه، فمن أجل هذه الراهنية المشبوهة التي فرضها نظام العنف العالمي الجديد، وانتهت إلى تضارب في الأفكار والمقولات والسلوكيات.
العلمانية وسياسة المركز
يستحوذ الالتباس على القرار الفرنسي بمنع الحجاب من جهة الترابط العضوي القائم بين العلمانية والمركزية الغربية باعتبارها مملكة الاستعمار، وورشة لصناعة الانحراف الأيديولوجي، وبؤرة تاريخية للقطيعة مع الآخر الدوني؛ فالعقل الأوروبي الأنواري الحديث لم يتوقف منذ هيغل (المتوفى 1831) على التفخيم من شأن الحضارة الغربية، وإقصاء ما سواها.
ذلك أن الغرب وحده هو النموذج الوحيد للحضارة الكونية ابتداء من اليونان، ثم الرومان، وانتهاء بالثورة الفرنسية؛ فألمانيا الجرمانية.
غير أن هذا الوجه الحضاري الفريد، لم يتأخر عن تفجير غاياته الصراعية وحقيقته المتوحشة، وممارسته ألعاب الارتقاء اللاطبيعي والانتقاء العسكري؛ فالنازية مثلا صناعة ألمانية محلية كان هدفها التصفية العرقية العالمية، ويروي اليهود أنها قتلت منهم 6 ملايين حرقا، والفاشية التي مارسها فرانكو وموسيليني، والإقطاعية القيصرية هي بدورها منتجات أوروبية صرفة، وكذلك الاستشراق والاستعمار، وقهر الشعوب المستضعفة، كانت كلها إفرازات الحضارة الأوروبية المحكومة بآليات الصراع التاريخي والثقافي.
أما الصورة الاستعمارية للعلمانية، فتبدو بشكل متوحش قاتم مع الشيوعية، فقد كانت ثورة 1917 علمانية خالصة، جعلت منها (العلمانية) منهجا يقينيا قطعيا، لا يتحصن إلا باستئصال الآخر، فتمركز في العالم بالقهر العسكري، والإبادة، والقتل بالتفصيل وبالجملة.
وكذلك فرنسا حين اختارت العلمانية بطريقة دستورية شرعية عام 1905، كانت أطاحت بشعارات الجمهورية الثلاثة، وهي: الحرية والأخوة والمساواة، بإزاء شعوب الهامش التي عسكرتها، وراحت تمارس عليها بشاعتها الاستعمارية بشتى وسائل القمع حتى نُعِتت الجزائر ببلد المليون شهيد، هم قتلى الجيش العلماني.
ونتيجة لهذا، فإن تونس لم تستقل إلا عام 1956، ولكن إجلاء القوات الغازية لم يقع إلا عام 1963 ببنزرت. وكذلك استقل المغرب عام 1956، ولم تحصل الجزائر على سيادتها إلا في 1962.
إن منظومة المركزية الغربية والنزعة الأوروبية هي الفلسفة الأولى، وعلة العلل على مستوى السياسة والفكر والاقتصاد، وتأتي من بعد ذلك شعارات التسويق، ودبلوماسية المراوغة، ومن ثَم الأدوار الذرائعية، والخطابات الديماغوجية التي يروج لها باعتبارها أفيون الشعوب العالمثالية المتخلفة، والمهووسة بالمواقف الاتباعية المطلقة.
العلمانية والازدواجية
يتمايز النظام العلماني الفرنسي المنبجس من النزعة الأوروبية بكونه خطابًا براغماتيا استفرغ في ذاته كل دلائل المواربة والمخاتلة في مختلف مفاصله المنهجية؛ أي إنه خطاب تحكمه الأولويات والمصالح السياسية؛ لذلك ما كان يقيم للقيم والمبادئ والقوانين وزنا.
وسنذكر في هذا المضمار بعض المعطيات العينية التي استحدثت بفعل التناقض والارتداد على المبادئ، تحولات فظة في الممارسة والسلوك.
في قانون 9 ديسمبر 1905 الذي يفصل بين السلطة والكنائس المسيحية، يذكر المشرع في البندين الأول والثاني، أن الجمهورية حيادية: تعترف بحرية الممارسات الدينية دون اعتراف رسمي منها بأي من الديانات والمعتقدات التي تمارس على أرضها، ودون دعم منها أيضا، غير أنها أحدثت الاستثناء بدافع مصلحي، فإذا بالبرلمان الفرنسي الذي تسيطر عليه غالبية يمينية يتبنى عام 1920 قرارا ببناء جامع باريس، ويصوت عليه إيجابا. وقد اعتبر هذا الأمر وقتذاك ملائما للمبادئ والقيم العلمانية، باعتبار هذا المشروع اعترافا بالجميل لأولئك الذين أراقوا دماءهم في سبيل الجمهورية، وماتوا من أجل علم فرنسا في الحرب العالمية الأولى حسب هذا الزعم. والمقصودون هم الشمال الأفريقيون الذين لا يزال كثير منهم- في حدود علمنا- مسجلا على القوائم السوداء التي تمنع المحاربين القدماء المعادين لأوطانهم من معاودة الدخول إليها، وخاصة بالجزائر.
وعلى العكس من هذا المثال، تحتم الحكومة الفرنسية (المعروفة بفيشي) عام 1941 التفرقة الدينية بين مواطنيها المسيحيين واليهود الذين صنفتهم بطريقة سلبية على أساس عقيدتهم، فميزتهم مدنيا على مستوى الوثائق، واجتماعيا بحمل نجمة داود بصفة مرئية، كشكل من أشكال القمع النازي باعتبار النجمة اليهودية شارة إذلال وامتهان.
وبعد أقل من قرن (17 ديسمبر 2003) تعاود الجمهورية ترتيب أوراقها، وتأتي الحكومة اليمينية (لتحرم الحلال وتحل الحرام)، فبعد أن تدخلت رسميا، وتبنت مسألة بناء مسجد باريس إكراما للمحاربين العرب، وسمحت (بالتضمين) لنساء المحاربين بارتداء الحجاب الذي كانت الشمال الأفريقيات يضعنه في صورة لباس تقليدي، إذا بها ترتد على أعقابها وتتحفز لاستصدار قانون من أجل منع ارتداء الحجاب بعد أن انتهت المهمة العسكرية للشمال الأفريقيين الذين صاروا يعيشون على هامش الحياة الباريسية.
وهكذا تم الأمر مقلوبا بالنسبة إلى اليهود، فبعد أن كانوا يؤمرون بعنف القانون بحمل نجمة داود بغرض تحقيري، يطلع علينا مشرع القانون اليميني الجديد بالحظر على كل يهودي يتحرك على أرض فرنسا، أن يحمل نجمة داود.
إن هذا التناقض في المبدأ والقول والسلوك يستهدف المجموعة العربية في وجودها الاجتماعي بصفة خاصة، شكلا ومضمونا، وجودا وحضورا وحضارة، ويستهدف غيرها بشكل تمويهي؛ لأن الدين كامن في أعماق البنية العلمانية؛ فالعطل الرسمية في فرنسا خاضعة لأجندة الاحتفالات المسيحية، وجنائز رؤساء الجمهورية تتم بصفة رسمية في كنيسة "نوتردام" بباريس، كما حصل مع الرئيس الاشتراكي "فرانسوا ميتران".
ليس إذن لهذا التحامل المتترس بالمبادرات القانونية سوى دلالة ظاهرة لا تخفى، وهي هشاشة العلمانية، وعجز المدنية الديمقراطية عن محاورة الآخر، أو اختراق خصائصه الفكرية؛ فحل العنف الشرعي للدولة العاجزة محل العنف العسكري، وصار القصف القانوني ضاربا بدل الدبابة والمدفع والطائرة.
والسؤال اليوم: هل انهزم الوعي المدني بإزاء الوعي الديني؟
إن المسلمين المحاصرين في فرنسا يمثلون من الناحية العددية أولى الأقليات (5 ملايين) وهم متقدمون عن البروتستانت (900 ألف) وهؤلاء لم يتحرروا في فرنسا من القمع الديني إلا في حدود القرن السادس عشر، ويأتي اليهود في الدرجة الأخيرة (600 ألف= 2%).
إن اللباس الشخصي أو قضية الخمار حينما تطلق من فرنسا، تتحول إلى قضية عنصرية، ومشكل استعماري؛ لأنه فيما وراء القانون يستهدف ذاتية أمة وشخصيتها وهويتها الحضارية.
فالحجاب شأن قومي؛ لكونه زيًّا نسائيا مشتركا مغرقا في التاريخ، محايدا لا تتجاذبه الشعارات ولا تختلف فيه الآراء والمذاهب، ولا تعترض عليه السياسات، اللهم إلا بعض المواقف العرضية الموقوتة التي منع فيها ارتداء الحجاب بشكل شبه رسمي، وما ذاك إلا لكونه من حيث النمط والشكل لم يظهر بمواصفات متعينة إلا بظهور الحركات الموصوفة بالانقلابية، وهي حسب هذا التقييم تستعمل الرموز، وخاصة الحجاب، من أجل إدانة النظام السياسي والاجتماعي، ومحاربته أيديولوجيا، لكن التجاذبات تبقى رغم هذا، ومع كل هذا، ممانعات عرضية وعابرة لا تلبث أن تزول بزوال الاستفزازات والاستثارات، وسيعقبها بعد ذلك، التوافق الاجتماعي والمصالحة الوطنية، وهي مسألة آتية لا ريب فيها.
الحجاب: الأنماط الاجتماعية
تطرح مسألة الحجاب إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر. وهي موازنة قائمة على الجهل بالمختلف (الآخر) وبالآليات الفكرية والاعتقادية التي تمنحه خصائصه السلوكية.
فالسيد جاك شيراك أصدر بشكل تمويهي مراوغ جملة من الممنوعات تحف بالقضية الأساس وهي الحجاب، فأصدر أمرا بحظر الرموز الدينية، وقد انصب الأمر على منع حمل الصلبان (الكبيرة فقط) وكأن التلاميذ سيدخلون المدارس عارضين الصلبان الكبيرة على غرار ما يفعل رواد الملاعب حين يدخلون ملوحين بالأعلام والمحمولات الرمزية، ووافق كذلك على منع حمل نجمة داود (الكبيرة فقط).
ومنع كذلك تعليق ما أسماه يد فاطمة، (الكبيرة فقط)، وقد اعتبر سيادته هذه اليد الكبيرة رمزا إسلاميا تماما مثل نجمة داود، وصليب المسيح، وإذا كان داود نبيا، والمسيح رسولا، فإن صاحب السيادة لم يقل لنا شيئا عن السيدة فاطمة العجيبة، هل هي من الأنبياء والمرسلين؟ أم من الأولياء والصالحين؟.
لقد علم الجميع في فرنسا أن يد فاطمة تستعمل في شمال أفريقيا بغير هذا الاسم (وهو الخُمسة بضم الخاء) كتعويذة للحماية من العين والحسد والسحر ولا علاقة لها بالدين؛ فهي من مخلفات العصر الجاهلي، حيث كانوا يعمدون إثر كل ذبيحة إلى غمس اليد في الدماء، ورسمها على الحائط بشكل أصابع اليد الخمسة التي تعلق الآن، والآيات القرآنية حرمت هذه الممارسة الجاهلية.
وقد أراد شيراك إلصاق هذه السمة الجاهلية بالمعتقد الإسلامي ورفعها إلى مستوى تتضاهى فيه مع الحجاب، ولعل هذا الوعي المشوش تلقاء الديانات الغيرية هو وحده من يسوغ اضطهاد الآخر تحت أية صورة نمطية ترسمها الذاكرة، وتصنعها الأفكار الشوهاء.
ضمن هذا السياق يتنزل الغلط المفهومي في مسألة الحجاب؛ فهو في الفكر الغربي المعاصر مرادف للعنف وللإرهاب، كما تعودنا من دروس بوش الصغير.
غير أن سيمولوجيا الحجاب تنطوي على جملة من العلامات والدلائل والمضامين ذات الأبعاد التاريخية والحضارية التي عرفتها أوروبا ذاتها في المنطقة الأندلسية قديما والأسبانية حديثا دون أن تنكرها.
وقد رصدنا للحجاب خمسة استعمالات ذات منطلقات مختلفة تدل على أن الأمة إما بحكم العادة أو الدين تتضامن تلقائيا مع مسألة الحجاب
لقد كشف شيراك آنذاك البعد الحقيقي للعلمانية، وفضح منهجها الإقصائي الذي يلغي وجود المعتقدات الدينية، فأوقف بذلك الضجيج السائد حول الفكر البدائلي الذي كانت تجسده الأحلام العلمانية في زمان سقوط الإيديولوجيات، وهي بهذا الشكل التوتاليتاري المذكور، فقد طوق العقل العربي داخل جغرافيا المصطلح بشكل شمولي، فقرأ فيزيولوجيا مفردة العلمانية (إذا ما كانت عينها مفتوحة أم مكسورة)، وبحث في إيتيمولوجيا العبارة (هل هي من العلم بالمعنى الموضوعي، أم أنها معتقد ينافس كل معتقد)، وفحص أيديولوجيا الدلالة (إذا كانت مواقفية ترتطم بالدين، أم أنها مشروع ليبرالي ينتظم كل دين)، وقد غاب عن هذه التحريات والتحقيقات النظرية الإشكال الحيوي الذي تثيره المسألة العلمانية في العالم العربي من حيث علاقتها الالتباسية بالحقوق الاجتماعية وبالمعتقدات وبالمؤسسات. إنها تبدو من الأنساق الكبرى التي لا تقف على أرضية حيادية، ومواقف موضوعية تبرئها من الانحياز والانزياح الأيديولوجي.
فالعلمانية المتفرعة عن الأيديولوجيات اليسارية المنقرضة تظل حليفة دائمة للأنظمة القائمة تدفعها إلى ذلك عقلية انتفاعية خالصة، من أجل هذا لا تجيب عن القضايا المستعصية في البلاد العربية، والاستفهامات الملحة التي تفجر نفسها لتكشف التناقض بين الشعار والأداء، والخطابات الديماغوجية: هل الحرية الدينية المباحة والمفروضة تتماثل مع الحرية السياسية المفترضة؟ أم أن الليبرالية السياسية تبقى من التابوهات والممنوعات الأبدية؟ وهل يكون البرنامج السياسي ممارسة ديمقراطية واقعية تظل محايدة بإزاء الاختبارات الوطنية، ولو ناهضت السياسات العلمانية القائمة؟ أم أن البرنامج العلماني مجرد خفير وحارس لنظام دوغمائي منقفل يتمنى المصادرة والهيمنة على الزمان والمكان والإنسان؟.
واللافت أن السيد شيراك افتقد منطقه منطقية هذا السؤال، فمنع الحجاب باعتباره رمزًا دون أن يعرج على الرموز الفلسفية (الإلحاد مثلا)، والرموز السياسية (النازية والصهيونية) التي تعربد في المعاهد والجامعات والنقابات والإعلام، في حين أن قوانين عام 1936؛ نظرًا إلى العنف الذي ساد المؤسسات التعليمية بين اليمين واليسار، منعت إبداء كل رمز سياسي.
إننا وإن كنا لا نعبأ بالعلمانية العربية؛ لكونها مجرد مجاز سياسي (علمانوية) يتناظر مع ديمقراطية الأنظمة العربية الحاكمة التي تستتر بشعارات الموضة الكونية (الديمقراطية وحقوق الإنسان) لتخفي العجز والفراغ والفوضى، فإننا من قبيل الانتماء والمعايشة الميدانية، نقدر العلمانية الفرنسية حق قدرها، وإن نحن ناقشناها بعقل نقدي، لا هجاء فيه، فمن أجل هذه الراهنية المشبوهة التي فرضها نظام العنف العالمي الجديد، وانتهت إلى تضارب في الأفكار والمقولات والسلوكيات.
العلمانية وسياسة المركز
يستحوذ الالتباس على القرار الفرنسي بمنع الحجاب من جهة الترابط العضوي القائم بين العلمانية والمركزية الغربية باعتبارها مملكة الاستعمار، وورشة لصناعة الانحراف الأيديولوجي، وبؤرة تاريخية للقطيعة مع الآخر الدوني؛ فالعقل الأوروبي الأنواري الحديث لم يتوقف منذ هيغل (المتوفى 1831) على التفخيم من شأن الحضارة الغربية، وإقصاء ما سواها.
ذلك أن الغرب وحده هو النموذج الوحيد للحضارة الكونية ابتداء من اليونان، ثم الرومان، وانتهاء بالثورة الفرنسية؛ فألمانيا الجرمانية.
غير أن هذا الوجه الحضاري الفريد، لم يتأخر عن تفجير غاياته الصراعية وحقيقته المتوحشة، وممارسته ألعاب الارتقاء اللاطبيعي والانتقاء العسكري؛ فالنازية مثلا صناعة ألمانية محلية كان هدفها التصفية العرقية العالمية، ويروي اليهود أنها قتلت منهم 6 ملايين حرقا، والفاشية التي مارسها فرانكو وموسيليني، والإقطاعية القيصرية هي بدورها منتجات أوروبية صرفة، وكذلك الاستشراق والاستعمار، وقهر الشعوب المستضعفة، كانت كلها إفرازات الحضارة الأوروبية المحكومة بآليات الصراع التاريخي والثقافي.
أما الصورة الاستعمارية للعلمانية، فتبدو بشكل متوحش قاتم مع الشيوعية، فقد كانت ثورة 1917 علمانية خالصة، جعلت منها (العلمانية) منهجا يقينيا قطعيا، لا يتحصن إلا باستئصال الآخر، فتمركز في العالم بالقهر العسكري، والإبادة، والقتل بالتفصيل وبالجملة.
وكذلك فرنسا حين اختارت العلمانية بطريقة دستورية شرعية عام 1905، كانت أطاحت بشعارات الجمهورية الثلاثة، وهي: الحرية والأخوة والمساواة، بإزاء شعوب الهامش التي عسكرتها، وراحت تمارس عليها بشاعتها الاستعمارية بشتى وسائل القمع حتى نُعِتت الجزائر ببلد المليون شهيد، هم قتلى الجيش العلماني.
ونتيجة لهذا، فإن تونس لم تستقل إلا عام 1956، ولكن إجلاء القوات الغازية لم يقع إلا عام 1963 ببنزرت. وكذلك استقل المغرب عام 1956، ولم تحصل الجزائر على سيادتها إلا في 1962.
إن منظومة المركزية الغربية والنزعة الأوروبية هي الفلسفة الأولى، وعلة العلل على مستوى السياسة والفكر والاقتصاد، وتأتي من بعد ذلك شعارات التسويق، ودبلوماسية المراوغة، ومن ثَم الأدوار الذرائعية، والخطابات الديماغوجية التي يروج لها باعتبارها أفيون الشعوب العالمثالية المتخلفة، والمهووسة بالمواقف الاتباعية المطلقة.
العلمانية والازدواجية
يتمايز النظام العلماني الفرنسي المنبجس من النزعة الأوروبية بكونه خطابًا براغماتيا استفرغ في ذاته كل دلائل المواربة والمخاتلة في مختلف مفاصله المنهجية؛ أي إنه خطاب تحكمه الأولويات والمصالح السياسية؛ لذلك ما كان يقيم للقيم والمبادئ والقوانين وزنا.
وسنذكر في هذا المضمار بعض المعطيات العينية التي استحدثت بفعل التناقض والارتداد على المبادئ، تحولات فظة في الممارسة والسلوك.
في قانون 9 ديسمبر 1905 الذي يفصل بين السلطة والكنائس المسيحية، يذكر المشرع في البندين الأول والثاني، أن الجمهورية حيادية: تعترف بحرية الممارسات الدينية دون اعتراف رسمي منها بأي من الديانات والمعتقدات التي تمارس على أرضها، ودون دعم منها أيضا، غير أنها أحدثت الاستثناء بدافع مصلحي، فإذا بالبرلمان الفرنسي الذي تسيطر عليه غالبية يمينية يتبنى عام 1920 قرارا ببناء جامع باريس، ويصوت عليه إيجابا. وقد اعتبر هذا الأمر وقتذاك ملائما للمبادئ والقيم العلمانية، باعتبار هذا المشروع اعترافا بالجميل لأولئك الذين أراقوا دماءهم في سبيل الجمهورية، وماتوا من أجل علم فرنسا في الحرب العالمية الأولى حسب هذا الزعم. والمقصودون هم الشمال الأفريقيون الذين لا يزال كثير منهم- في حدود علمنا- مسجلا على القوائم السوداء التي تمنع المحاربين القدماء المعادين لأوطانهم من معاودة الدخول إليها، وخاصة بالجزائر.
وعلى العكس من هذا المثال، تحتم الحكومة الفرنسية (المعروفة بفيشي) عام 1941 التفرقة الدينية بين مواطنيها المسيحيين واليهود الذين صنفتهم بطريقة سلبية على أساس عقيدتهم، فميزتهم مدنيا على مستوى الوثائق، واجتماعيا بحمل نجمة داود بصفة مرئية، كشكل من أشكال القمع النازي باعتبار النجمة اليهودية شارة إذلال وامتهان.
وبعد أقل من قرن (17 ديسمبر 2003) تعاود الجمهورية ترتيب أوراقها، وتأتي الحكومة اليمينية (لتحرم الحلال وتحل الحرام)، فبعد أن تدخلت رسميا، وتبنت مسألة بناء مسجد باريس إكراما للمحاربين العرب، وسمحت (بالتضمين) لنساء المحاربين بارتداء الحجاب الذي كانت الشمال الأفريقيات يضعنه في صورة لباس تقليدي، إذا بها ترتد على أعقابها وتتحفز لاستصدار قانون من أجل منع ارتداء الحجاب بعد أن انتهت المهمة العسكرية للشمال الأفريقيين الذين صاروا يعيشون على هامش الحياة الباريسية.
وهكذا تم الأمر مقلوبا بالنسبة إلى اليهود، فبعد أن كانوا يؤمرون بعنف القانون بحمل نجمة داود بغرض تحقيري، يطلع علينا مشرع القانون اليميني الجديد بالحظر على كل يهودي يتحرك على أرض فرنسا، أن يحمل نجمة داود.
إن هذا التناقض في المبدأ والقول والسلوك يستهدف المجموعة العربية في وجودها الاجتماعي بصفة خاصة، شكلا ومضمونا، وجودا وحضورا وحضارة، ويستهدف غيرها بشكل تمويهي؛ لأن الدين كامن في أعماق البنية العلمانية؛ فالعطل الرسمية في فرنسا خاضعة لأجندة الاحتفالات المسيحية، وجنائز رؤساء الجمهورية تتم بصفة رسمية في كنيسة "نوتردام" بباريس، كما حصل مع الرئيس الاشتراكي "فرانسوا ميتران".
ليس إذن لهذا التحامل المتترس بالمبادرات القانونية سوى دلالة ظاهرة لا تخفى، وهي هشاشة العلمانية، وعجز المدنية الديمقراطية عن محاورة الآخر، أو اختراق خصائصه الفكرية؛ فحل العنف الشرعي للدولة العاجزة محل العنف العسكري، وصار القصف القانوني ضاربا بدل الدبابة والمدفع والطائرة.
والسؤال اليوم: هل انهزم الوعي المدني بإزاء الوعي الديني؟
إن المسلمين المحاصرين في فرنسا يمثلون من الناحية العددية أولى الأقليات (5 ملايين) وهم متقدمون عن البروتستانت (900 ألف) وهؤلاء لم يتحرروا في فرنسا من القمع الديني إلا في حدود القرن السادس عشر، ويأتي اليهود في الدرجة الأخيرة (600 ألف= 2%).
إن اللباس الشخصي أو قضية الخمار حينما تطلق من فرنسا، تتحول إلى قضية عنصرية، ومشكل استعماري؛ لأنه فيما وراء القانون يستهدف ذاتية أمة وشخصيتها وهويتها الحضارية.
فالحجاب شأن قومي؛ لكونه زيًّا نسائيا مشتركا مغرقا في التاريخ، محايدا لا تتجاذبه الشعارات ولا تختلف فيه الآراء والمذاهب، ولا تعترض عليه السياسات، اللهم إلا بعض المواقف العرضية الموقوتة التي منع فيها ارتداء الحجاب بشكل شبه رسمي، وما ذاك إلا لكونه من حيث النمط والشكل لم يظهر بمواصفات متعينة إلا بظهور الحركات الموصوفة بالانقلابية، وهي حسب هذا التقييم تستعمل الرموز، وخاصة الحجاب، من أجل إدانة النظام السياسي والاجتماعي، ومحاربته أيديولوجيا، لكن التجاذبات تبقى رغم هذا، ومع كل هذا، ممانعات عرضية وعابرة لا تلبث أن تزول بزوال الاستفزازات والاستثارات، وسيعقبها بعد ذلك، التوافق الاجتماعي والمصالحة الوطنية، وهي مسألة آتية لا ريب فيها.
الحجاب: الأنماط الاجتماعية
تطرح مسألة الحجاب إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر. وهي موازنة قائمة على الجهل بالمختلف (الآخر) وبالآليات الفكرية والاعتقادية التي تمنحه خصائصه السلوكية.
فالسيد جاك شيراك أصدر بشكل تمويهي مراوغ جملة من الممنوعات تحف بالقضية الأساس وهي الحجاب، فأصدر أمرا بحظر الرموز الدينية، وقد انصب الأمر على منع حمل الصلبان (الكبيرة فقط) وكأن التلاميذ سيدخلون المدارس عارضين الصلبان الكبيرة على غرار ما يفعل رواد الملاعب حين يدخلون ملوحين بالأعلام والمحمولات الرمزية، ووافق كذلك على منع حمل نجمة داود (الكبيرة فقط).
ومنع كذلك تعليق ما أسماه يد فاطمة، (الكبيرة فقط)، وقد اعتبر سيادته هذه اليد الكبيرة رمزا إسلاميا تماما مثل نجمة داود، وصليب المسيح، وإذا كان داود نبيا، والمسيح رسولا، فإن صاحب السيادة لم يقل لنا شيئا عن السيدة فاطمة العجيبة، هل هي من الأنبياء والمرسلين؟ أم من الأولياء والصالحين؟.
لقد علم الجميع في فرنسا أن يد فاطمة تستعمل في شمال أفريقيا بغير هذا الاسم (وهو الخُمسة بضم الخاء) كتعويذة للحماية من العين والحسد والسحر ولا علاقة لها بالدين؛ فهي من مخلفات العصر الجاهلي، حيث كانوا يعمدون إثر كل ذبيحة إلى غمس اليد في الدماء، ورسمها على الحائط بشكل أصابع اليد الخمسة التي تعلق الآن، والآيات القرآنية حرمت هذه الممارسة الجاهلية.
وقد أراد شيراك إلصاق هذه السمة الجاهلية بالمعتقد الإسلامي ورفعها إلى مستوى تتضاهى فيه مع الحجاب، ولعل هذا الوعي المشوش تلقاء الديانات الغيرية هو وحده من يسوغ اضطهاد الآخر تحت أية صورة نمطية ترسمها الذاكرة، وتصنعها الأفكار الشوهاء.
ضمن هذا السياق يتنزل الغلط المفهومي في مسألة الحجاب؛ فهو في الفكر الغربي المعاصر مرادف للعنف وللإرهاب، كما تعودنا من دروس بوش الصغير.
غير أن سيمولوجيا الحجاب تنطوي على جملة من العلامات والدلائل والمضامين ذات الأبعاد التاريخية والحضارية التي عرفتها أوروبا ذاتها في المنطقة الأندلسية قديما والأسبانية حديثا دون أن تنكرها.
وقد رصدنا للحجاب خمسة استعمالات ذات منطلقات مختلفة تدل على أن الأمة إما بحكم العادة أو الدين تتضامن تلقائيا مع مسألة الحجاب
عدل سابقا من قبل زين في الجمعة أغسطس 29, 2008 2:29 am عدل 3 مرات