باسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله ,أما بعد :
فلا شك أن الله تعالى خلق لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم ,
مع البقاء في الدارين من غير موت ,
و خلق دارًا معجلة للأعمال و جعل فيها موتا و حياة ,
وابتلى عباده فيها بما أمرهم به و نهاهم عنه ,
و كلفهم الإيمان بالغيب ,
و منه الإيمان بالجنة و النار ,
و أنزل بذلك الكتب , و أرسل به الرسل ,
و أقام أمارات و علامات تدل على داري الجزاء الجنة و النار ,
فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم ,
و أخرى دار عذاب محض ليس فيها راحة .
و هذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم و الألم ,
فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة نسأل الله تعالى أن نكون من أهلها,
و ما فيها من الألم يذكر بعذاب النار أعاذنا الله و إياكم منها ,
و جعل الله عز وجل في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية .
فكل ما في الدنيا يدل على صانعه ,
و يذكر به ,
و يدل على صفاته ,
فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم خالقه و فضله و إحسانه و جوده و لطفه ,
و ما فيها من نقمة شديدة و عذاب بئيس يدل على شدة بأسه و بطشه و قهره و انتقامه.
فمنها ما يذكر بالجنة كزمن الربيع ,
فإن طيبه يُذكر بنعيم الجنة و طيبها ,
و أوقات الأسحار فإن بردها يُذكر ببرد الجنة .
و منها ما يذكر بالنار ,
فإن الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة تذكر بالنار المعدة لمن عصاه , فمن ذلك أماكن و أزمان و أجسام و غير ذلك .
أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر أو البرد .
و أما الأزمان فشدة الحر و البرد يذكر بما في جهنم من الحر و الزمهرير .
و أما الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة ,
منها الشمس عند اشتداد حرها ,
و مما يؤمر فيه بالصبر على حر الشمس النفير للجهاد في الصيف ,
كما قال الله تعالى عن المنافقين :
((وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)) [التوبة : 81]
و كذلك في المشي إلى المساجد لشهود الجمع و الجماعات ,
و شهود الجنائز و نحوها من الطاعات .
و في الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه , قال :
(( لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحرِّ ,
و إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر و ما من احد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن رواحه )) .
و لما صبر الصائمون لله في الحرِّ على شدة العطش و الظمأ ,
أفرد الله لهم بابا من أبواب الجنة الثمانية يقال له الريان ,
من دخله شرب و من شرب لم يظمأ بعدها أبدًا ,
فإذا دخلوا أغلق على من بعدهم فلا يدخل منه غيرهم .
و دخل ابن وهب الحمام فسمع تاليا يتلو قول الله عز و جل :
((وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ)) . [غافر : 47] فسقط مغشيا عليه .
وصبَّ بعض السلف على رأسه ماءً فوجده شديد الحرارة ,
فبكى و قال :
ذكرت قول الله تعالى :
((يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ))[الحج : 19-20] .
و قال الحسن كل برد أهلك شيئا فهو من نَفَس جهنم ,
و كل حر أهلك شيئا فهو من نَفَس جهنم .
و رأى عمر بن عبد العزيز قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقوا الغبار فبكى ثم أنشد :
من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار يخاف الشين و الشعثا
ويألف الظلَّ كــي تبقــــــى بشـاشته *** فسوف يسكن يوما راغمًا جدثا
فـي ظـل مقـفرة غبـــراء مظـلمـــة *** يطل تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهـــزي بجـــهاز تـبلغـيــن بـــــه *** يا نفس قبل الردى لم تُخلقي عبثا
و نزل الحجاج في بعض أسفاره بماءٍ بين مكة و المدينة ,
فدعا بغدائه ,
و رأى أعرابيا فدعاه إلى الغداء معه ,
فقال له :
دعاني من هو خير منك فأجبته ,
قال :
ومن هو؟
قال :
الله سبحانه و تعالى ,
دعاني إلى الصيام فصمت ,
فقال الحجاج :
في هذا اليوم الشديد الحر ؟
قال :
نعم ,
صُمتُ ليوم هو أشد منه حرا ,
قال :
فأفطر و صم غدا ,
فقال الأعرابي :
إن ضمنت لي البقاء إلى غدٍ ,
قال :
ليس ذلك إليَّ ...!! ,
قال :
فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه ؟! .
و خرج ابن عمر رضي الله عنه في سفر معه أصحابه ,
فوضعوا سُفرة لهم ,
فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم , ,
قال :
إني صائم ,
فقال ابن عمر :
في مثل هذا اليوم الشديد الحر و أنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم و أنت صائم ؟! ,
فقال :
أبادر أيامي الخالية ,
فتعجب منه ابن عمر ,
و قال له:
هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك و نعطيك ثمنها ؟
قال :
إنها ليست لي ,
إنها لمولاي,
قال :
فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت :
أكلها الذئب ؟
– يختبر أمره - ,
فمضى الراعي و هو رافع أصبعه إلى السماء يقول :
فأين الله !!
فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه ,
فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي ,
فاشترى منه الراعي و الغنم ,
فأعتق الراعي ووهب له الغنم .
و مما يذكرنا في الدنيا أيضا بحرِّ النار ,
الحمى التي تصيب بني آدم وهي نار باطنة ,
فمنها نفحة من نفحات سموم جهنم ,
و منها نفحة من نفحات زمهريرها ,
و قد روى الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد مريضًا من وعكٍ كان به ,
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( أبشر فإن الله يقول :
هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة ))
, و المراد أن الحمى تكفِّر ذنوب المؤمن و تنقيه منها ,
كما ينقي الكير خبث الحديد .
و من أعظم ما يذكر بنار جهنم –
أعاذنا الله منها – النار التي في الدنيا ,
قال الله تعالى : (( نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ))[الواقعة : 73] ,
يعني أن نار الدنيا جعلها الله تذكرة بنار الآخرة .
و قد مر ابن مسعود رضي الله عنه بالحدادين و قد اخرجوا حديدا من النار فوقف ينظر إليه و يبكي .
هذا و نار الدنيا جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ,
ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم , قيل يا رسول الله :
إن كانت لكافية !!!
قال :
فُضلت عليها بتسعة و ستين جزءا كلها مثل حرها .
و قال بعض السلف لو أُخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لناموا فيها ألفي عام .
يعني أنهم يرونها بردا و نعيما بالنسبة لما هم فيه من حر جهنم .
و كان عمر رضي الله عنه يقول :
أكثروا ذكر النار
, فإن حرها شديد ,
و إن قعرها بعيد , و إن مقامعها حديد .
و كان ابن عمر و غيره من السلف إذا شربوا الماء البارد ,
بكوا و ذكروا أمنية أهل النار و هم يشتهون الماء البارد ,
و قد حيل بينهم و بين ما يشتهون ,
يقولون لأهل الجنة كما اخبر الله تعالى :
((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ)
فكان رد أهل الجنة عليهم كما أخبر رب العزة سبحانه :
(( قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )) [الأعراف : 50] .
هذا و قد قال الله عز و جل :
((وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الذاريات : 55] فأسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا و أن يعلمنا ما جهلنا و أن يزدنا علما,
ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار,
و صلِّ اللهم على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما , و الله من وراء القصد .