دعوةالتَّوحيد هي دعوة الحقِّ
عبد المالك رمضاني
قال الله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الكافِرِينَ إِلاَّ في ضلاَلٍ﴾
[الرعد: ١٤].
روى ابن جرير ـ رحمه الله ـ في «تفسيره» (١٣/٤٨٥ ـ ٤٨٦) عن عليّ بنِ أبي طالبٍ أنَّ دعوةَ الحقِّ في الآية هي التَّوحيد، ورواه أيضًا عن ابن عبَّاس وقتادة وابن زَيْدٍ، ويمكن أن يُراجع له «تفسير عبد الرَّزَّاق» (٢/٣٣٤) و«الدُّعاء» للطَّبراني (١٥٨٠ ـ ١٥٨١)،و«الفوائد المنتقاة عن الشُّيُوخ العوالي» لأبي الحسن الحربي (٨٦) و«الأسماء والصِّفات» للبيهقي (٢٠٤).
وهذا التَّفسير السَّلَفِيُّ المختارُ واضحُ المعنى من جهتين:
الأولى: السِّياق؛ فإنَّ ما بعده يدلُّ عليه على وجه المقابلة، وذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ الآية.
الثانية: أنَّ كلَّ دعوةٍ لم تُؤَصَّلْ على التَّوحيد ولم تؤسَّسْ عليه فلا نَفْعَ فيها ولا ثبوت لها ولا قرار في الدُّنيا، ولا أجرَ فيها يوم القيامة، ولو لم يكن فيها إلاَّ مخالفة جميع الرُّسل لكفى به إثمًا، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥].
وفي هذا أبلغُ واعظٍ للدَّعوات التي لا تَهْتَمُّ بالتَّوحيد أوْ لا تركِّز عليه، فكيف بدعوةٍ تجهل التَّوحيد من أصله ولا تفرِّق بين التوحيد والشِّرك؟! فكيف بدعوةٍ تحارب التَّوحيدَ وأهلَه؟!
وكم همُ الَّذين لم تَنْشَرِحْ صدورُهم لهذه الدَّعوة المباركة؛ بزعم أنَّ الدَّعوة إلى التَّوحيد تُنَفِّر النَّاس عن الدِّين، أو أنَّ النَّاس يَمَلُّون خِطابَها ولا ينفعلون معها، وأنَّ الحكمةَ تقتضي من صاحبها تأجيلها، وهؤلاء يخطِئُون خطأً فاحشًا؛ لأنّهم بهذا يَطْعَنُونَ على دعوةِ الأنبياءِ من حيثُ لا يشعرون، ومنه جعلُ الأنبياءِ غيرَ حكماءِ!!!
وإنَّه لمن حُسْنِ الاختيارِ أن تُسمِّيَ بعضُ المؤسَّساتِ التعليميَّةِ الكلِّيَّةَ المختصَّةَ بالعقيدة: كلّيَّة الدَّعوة؛ لأنَّ الدَّعوة إلى معتقد السَّلف الصَّالح من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسانٍ هي أصلُ الدَّعوةِ ورَكِيزَتُها الأُولَى، ومَهْمَا دَعَتِ الجماعات والجمعيَّات ـ فضلاً عن الأفراد ـ إلى الأبواب الأخرى من علوم الدِّين، فإنَّ عملَهم لا يُعدُّ شيئًا، حتَّى يُعْنَوا بحقِّ الله عزَّ وجلَّ الّذي هو أن يُفْرَدَ سبحانه بالعبادة لا تأخذُهم في ذلك لَوْمَةُ لائِمٍ، مُقَدِّمِينَ حقَّ اللهِ على جميع الحقوقِ، ومقتدين في ذلك برُسل الله عزَّ وجلَّ، متيقِّنين بأنَّ هديَهم هو أكملُ هدي، وأنَّ السُّبل الدَّعويةَ الأخرى مهما كَثُرَ أَتْبَاعُها وتمكَّن أشْيَاعُها فإنَّما هي تزيينٌ من الشَّيطان، قال الله تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[فاطر: ٨]، مُدرِكين بأنَّ تَجَمْهُر الناس حولَ خُطبِهم الرَّنَّانَةِ الغنيَّةِ من كلِّ شيءٍ سوى التَّوحيدِ والسُّنَّةِ، ما هُو إلاَّ فِتْنَةٌ لهم؛ كما في سورة الأنبياء: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾[الأنبياء: 111] وأنّ جمالها كجمال حسناءٍ تُوشك أن تسيءَ الجِوارَ، وتُوحشَ الدِّيارَ.
وقد ذكر الله في كتابه وصيَّةَ لقمانَ لابنه، وذكر أنَّ أوَّلَ شيء وعَظَهُ به هو التَّحذيرُ من الشِّرك، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان: 13]، وذكر عزَّ وجلَّ أنَّه آتى لقمانَ الحكمةَ، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾[لقمان: 12]، وبعض الدَّعوات تدَّعي أنَّ تأجيلَ الحديث عن التَّوحيد والشِّرك هو الحكمةُ؛ بحجَّة أنَّ مخالفة ما ادَّعَوْهُ يُنَفِّرُ النَّاس الَّذين اعتادُوا بعضَ الطُّقُوس الشِّركيَّة!! وقارِئُ هذه الآية الكريمة لو صدَّقهم فيما ادَّعَوه لرمى لقمانَ الحكيمَ بمجانبةِ الحكمة، ولَطَعَنَ على كتاب الله من حيثُ لا يشعر، فاللهُ يصفُ الدَّاعي إلى التَّوحيد؛ بل البَادِئَ به بالحكمة، وهم يخالفُون ذلك! فليكن هؤلاء المخالفون لحكمةِ لقمانَ أوَّل المستفيدين من هذه الموعِظة، وسيِّدُ الحكماءِ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقولُ لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ لمّا أرسله إلى اليمن داعيًا: «إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ». متَّفق عليه من حديث ابن عبَّاس.
أَلاَ ـ أيُّها المتصدُّون لدعوة النّاس! ـ كونوا متَّبِعين لا مُبْتَدِعين، وعظِّموا حقَّ الله تَعْظُمُوا في عَيْنِ الله، ولا يَغُرَّنَّكُم تصفيقُ أتباعِكُم، وكثرةُ أشياعِكم، وجرُّ أذيالِكم؛ فإنَّهم لن يغنوا عنكم يوم القيامة من الله شيئًا، ولن تنجح دعوتُكم أبدًا ما أعرضتُم عن دعوة الحقِّ، وكلُّ تجرِبَة دعويَّة ترونَها جميلةً لمَّاعةً، وللجماهير جمَّاعةً، وللقلوب ميَّالةً، وللدُّموع سيَّالةً، فلا تسلِّموا لها حتَّى يكونَ عليها برهانٌ من صاحب الشَّريعة؛ فإنَّ الدَّعوة ـ كغيرها من مهمَّات الدِّين ـ لا تكون إلاَّ بإذنٍ من الله وتشريعِه، لا التَّجارِب والعواطف والاستجابة لرغبات العوامِّ.
قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (١٥/161 ـ ١٦٤): «ودعوتُه إلى الله هي بإذنه، لم يشرع دينًا لم يأذَن به الله؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾[الأحزاب: ٤٥ ـ ٤٦]، خلاف الّذين ذمَّهم في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾[الشورى: 21]، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾[يونس: 59].
وممَّا يبيِّن ما ذكرناه أنَّه سبحانه يَذْكُرُ أنَّه أمرَه بالدَّعوة إلى الله تارةً، وتارةً بالدَّعوة إلى سبيله، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل: ١٢٥]؛ وذلك أنَّه قد عَلِمَ أنَّ الدَّاعيَ الَّذي يدعو غيرَه إلى أمر لابدَّ فيما يدعو إليه من أمرين: أحدهما: المقصودُ المرادُ، والثَّاني: الوسيلةُ والطَّريقُ الموصلُ إلى المقصود، فلهذا يَذْكُر الدعوةَ تارةً إلى الله، وتارةً إلى سبيله، فإنَّه سبحانه هو المعبود المرادُ المقصود بالدَّعوة... وذلك يتعلَّق بتحقيق الألوهيَّة لله وتوحيده وامتناع الشِّرك، وفساد السَّموات والأرض بتقدير إلهٍ غيره، والفرق بين الشِّرك في الرُّبوبيَّة والشِّرك في الألوهيَّة، وبيان أنَّ العباد فُطِرُوا على الإقرار به ومحبَّتِه وتعظيمه، وأنَّ القلوب لا تصلح إلاَّ بأن تَعبدَ اللهَ وحده، ولا كمال لها ولا صلاح ولا لذَّة ولا سرور ولا فرح ولا سعادة بدون ذلك وتحقيق الصِّراط المستقيم؛ صراط الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبِيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، وغير ذلك ممَّا يتعلَّق بهذا الموضع الّذي في تحقيقه تحقيقُ مقصودِ الدَّعوة النَّبويَّة والرِّسالة الإلهية، وهو لبُّ القرآن وزبدتُه، وبيان التوحيد العلميِّ القوليِّ المذكور في قوله: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ﴾[الإخلاص: ١ ـ ٢]، والتَّوحيدِ القصديِّ العمليِّ المذكور في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾[الكافرون: ١]، وما يتَّصل بذلك؛ فإنَّ هذا بيانٌ لأصل الدَّعوةِ إلى الله وحقيقتِها ومقصودِها».
وهذا مقامٌ شريف، بل هو أشرفُ مقامٍ قامه الدَّاعي إلى سبيل ربِّه، وَلَوْ فَرَغْتُ له وجَرَّدْتُ قلمِي لَهُ خالصًا ما أدَّيْتُ ما يجب لله عليَّ فيه، وإنَّما أردتُ بهذه الفائدة أمرين:
الأول: استنهاض هِمَمِ الدَّاعين إلى الله نحو التَّوحيد وتعظيمِ شأنِه، لاسيما الزَّاهدين المزهِّدين للأمَّة فيه، والأمر يشتدُّ مع الَّذين اتَّخذوا من التَّقصير في هذا الجانب شعارًا لدعوتهم؛ زاعمين أنَّهم يتجنَّبون ما يملُّ النَّاس أو يجرح مشاعرَهم ولو كان هو حقُّ الله الخالص!!
فالتَّوحيد هو حقُّ الله الأعظم، ففي «الصحيحين» عن معاذ بن جبل، قال: قال النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ»، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟»، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ».
وقد نبَّه القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ في «الجامع لأحكام القرآن» (2/190) على نكتةٍ بديعةٍ في مناسبةِ قول الله تعالى: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة: 163] لآيةٍ قبلَها، وهي قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ﴾[البقرة: 159]، فقال: «لمَّا حذَّر تعالى من كتمان الحقِّ، بيَّنَ أنَّ أوَّل ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه التَّوحيد، وَوَصَلَ ذلك بِذِكْرِ البرهان».
الثاني: التَّذكير بأنَّ تفسير السَّلف هو أحسنُ تفسيرٍ، وإنْ نَبَتْ عنه أفهامُ النَّاس، كما رأينا في تفسير آية البَابِ، فهذه هي المحَجَّة البيضاء، وهؤلاء هم السَّالكون جادَّتها، فَخُذُوا طريقَها، والْزَمُوا فريقَها، والعاقبةُ للتَّقْوَى.
تنبيه: كتبَ بعضُ من لا يهتمُّ بالتوحيد ما سمَّوه: «التَّوحيد أوَّلا لو كانوا يعلمون»، لكنَّ سداه ولُحمتَه عندَهم الحاكميَّةُ والتَّشهيرُ بمثالب السَّلاطين، وكلُّ همِّهم في ذلك الوصول إلى تكفير الحكَّام بلا تفصيل!! وآيتهم الثَّرثرةُ بالإرجاء ورميُ كلِّ من لا يوافقهم به، فليُحذَرْ هؤلاء؛ فإنَّ الحقَّ فيما كتبوا أن يسمَّى: «التَّكفير أوَّلاً لو كانوا يعلمون!!».عبد المالك رمضاني
قال الله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الكافِرِينَ إِلاَّ في ضلاَلٍ﴾
[الرعد: ١٤].
روى ابن جرير ـ رحمه الله ـ في «تفسيره» (١٣/٤٨٥ ـ ٤٨٦) عن عليّ بنِ أبي طالبٍ أنَّ دعوةَ الحقِّ في الآية هي التَّوحيد، ورواه أيضًا عن ابن عبَّاس وقتادة وابن زَيْدٍ، ويمكن أن يُراجع له «تفسير عبد الرَّزَّاق» (٢/٣٣٤) و«الدُّعاء» للطَّبراني (١٥٨٠ ـ ١٥٨١)،و«الفوائد المنتقاة عن الشُّيُوخ العوالي» لأبي الحسن الحربي (٨٦) و«الأسماء والصِّفات» للبيهقي (٢٠٤).
وهذا التَّفسير السَّلَفِيُّ المختارُ واضحُ المعنى من جهتين:
الأولى: السِّياق؛ فإنَّ ما بعده يدلُّ عليه على وجه المقابلة، وذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ الآية.
الثانية: أنَّ كلَّ دعوةٍ لم تُؤَصَّلْ على التَّوحيد ولم تؤسَّسْ عليه فلا نَفْعَ فيها ولا ثبوت لها ولا قرار في الدُّنيا، ولا أجرَ فيها يوم القيامة، ولو لم يكن فيها إلاَّ مخالفة جميع الرُّسل لكفى به إثمًا، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥].
وفي هذا أبلغُ واعظٍ للدَّعوات التي لا تَهْتَمُّ بالتَّوحيد أوْ لا تركِّز عليه، فكيف بدعوةٍ تجهل التَّوحيد من أصله ولا تفرِّق بين التوحيد والشِّرك؟! فكيف بدعوةٍ تحارب التَّوحيدَ وأهلَه؟!
وكم همُ الَّذين لم تَنْشَرِحْ صدورُهم لهذه الدَّعوة المباركة؛ بزعم أنَّ الدَّعوة إلى التَّوحيد تُنَفِّر النَّاس عن الدِّين، أو أنَّ النَّاس يَمَلُّون خِطابَها ولا ينفعلون معها، وأنَّ الحكمةَ تقتضي من صاحبها تأجيلها، وهؤلاء يخطِئُون خطأً فاحشًا؛ لأنّهم بهذا يَطْعَنُونَ على دعوةِ الأنبياءِ من حيثُ لا يشعرون، ومنه جعلُ الأنبياءِ غيرَ حكماءِ!!!
وإنَّه لمن حُسْنِ الاختيارِ أن تُسمِّيَ بعضُ المؤسَّساتِ التعليميَّةِ الكلِّيَّةَ المختصَّةَ بالعقيدة: كلّيَّة الدَّعوة؛ لأنَّ الدَّعوة إلى معتقد السَّلف الصَّالح من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسانٍ هي أصلُ الدَّعوةِ ورَكِيزَتُها الأُولَى، ومَهْمَا دَعَتِ الجماعات والجمعيَّات ـ فضلاً عن الأفراد ـ إلى الأبواب الأخرى من علوم الدِّين، فإنَّ عملَهم لا يُعدُّ شيئًا، حتَّى يُعْنَوا بحقِّ الله عزَّ وجلَّ الّذي هو أن يُفْرَدَ سبحانه بالعبادة لا تأخذُهم في ذلك لَوْمَةُ لائِمٍ، مُقَدِّمِينَ حقَّ اللهِ على جميع الحقوقِ، ومقتدين في ذلك برُسل الله عزَّ وجلَّ، متيقِّنين بأنَّ هديَهم هو أكملُ هدي، وأنَّ السُّبل الدَّعويةَ الأخرى مهما كَثُرَ أَتْبَاعُها وتمكَّن أشْيَاعُها فإنَّما هي تزيينٌ من الشَّيطان، قال الله تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[فاطر: ٨]، مُدرِكين بأنَّ تَجَمْهُر الناس حولَ خُطبِهم الرَّنَّانَةِ الغنيَّةِ من كلِّ شيءٍ سوى التَّوحيدِ والسُّنَّةِ، ما هُو إلاَّ فِتْنَةٌ لهم؛ كما في سورة الأنبياء: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾[الأنبياء: 111] وأنّ جمالها كجمال حسناءٍ تُوشك أن تسيءَ الجِوارَ، وتُوحشَ الدِّيارَ.
وقد ذكر الله في كتابه وصيَّةَ لقمانَ لابنه، وذكر أنَّ أوَّلَ شيء وعَظَهُ به هو التَّحذيرُ من الشِّرك، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان: 13]، وذكر عزَّ وجلَّ أنَّه آتى لقمانَ الحكمةَ، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾[لقمان: 12]، وبعض الدَّعوات تدَّعي أنَّ تأجيلَ الحديث عن التَّوحيد والشِّرك هو الحكمةُ؛ بحجَّة أنَّ مخالفة ما ادَّعَوْهُ يُنَفِّرُ النَّاس الَّذين اعتادُوا بعضَ الطُّقُوس الشِّركيَّة!! وقارِئُ هذه الآية الكريمة لو صدَّقهم فيما ادَّعَوه لرمى لقمانَ الحكيمَ بمجانبةِ الحكمة، ولَطَعَنَ على كتاب الله من حيثُ لا يشعر، فاللهُ يصفُ الدَّاعي إلى التَّوحيد؛ بل البَادِئَ به بالحكمة، وهم يخالفُون ذلك! فليكن هؤلاء المخالفون لحكمةِ لقمانَ أوَّل المستفيدين من هذه الموعِظة، وسيِّدُ الحكماءِ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقولُ لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ لمّا أرسله إلى اليمن داعيًا: «إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ». متَّفق عليه من حديث ابن عبَّاس.
أَلاَ ـ أيُّها المتصدُّون لدعوة النّاس! ـ كونوا متَّبِعين لا مُبْتَدِعين، وعظِّموا حقَّ الله تَعْظُمُوا في عَيْنِ الله، ولا يَغُرَّنَّكُم تصفيقُ أتباعِكُم، وكثرةُ أشياعِكم، وجرُّ أذيالِكم؛ فإنَّهم لن يغنوا عنكم يوم القيامة من الله شيئًا، ولن تنجح دعوتُكم أبدًا ما أعرضتُم عن دعوة الحقِّ، وكلُّ تجرِبَة دعويَّة ترونَها جميلةً لمَّاعةً، وللجماهير جمَّاعةً، وللقلوب ميَّالةً، وللدُّموع سيَّالةً، فلا تسلِّموا لها حتَّى يكونَ عليها برهانٌ من صاحب الشَّريعة؛ فإنَّ الدَّعوة ـ كغيرها من مهمَّات الدِّين ـ لا تكون إلاَّ بإذنٍ من الله وتشريعِه، لا التَّجارِب والعواطف والاستجابة لرغبات العوامِّ.
قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (١٥/161 ـ ١٦٤): «ودعوتُه إلى الله هي بإذنه، لم يشرع دينًا لم يأذَن به الله؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾[الأحزاب: ٤٥ ـ ٤٦]، خلاف الّذين ذمَّهم في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾[الشورى: 21]، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾[يونس: 59].
وممَّا يبيِّن ما ذكرناه أنَّه سبحانه يَذْكُرُ أنَّه أمرَه بالدَّعوة إلى الله تارةً، وتارةً بالدَّعوة إلى سبيله، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل: ١٢٥]؛ وذلك أنَّه قد عَلِمَ أنَّ الدَّاعيَ الَّذي يدعو غيرَه إلى أمر لابدَّ فيما يدعو إليه من أمرين: أحدهما: المقصودُ المرادُ، والثَّاني: الوسيلةُ والطَّريقُ الموصلُ إلى المقصود، فلهذا يَذْكُر الدعوةَ تارةً إلى الله، وتارةً إلى سبيله، فإنَّه سبحانه هو المعبود المرادُ المقصود بالدَّعوة... وذلك يتعلَّق بتحقيق الألوهيَّة لله وتوحيده وامتناع الشِّرك، وفساد السَّموات والأرض بتقدير إلهٍ غيره، والفرق بين الشِّرك في الرُّبوبيَّة والشِّرك في الألوهيَّة، وبيان أنَّ العباد فُطِرُوا على الإقرار به ومحبَّتِه وتعظيمه، وأنَّ القلوب لا تصلح إلاَّ بأن تَعبدَ اللهَ وحده، ولا كمال لها ولا صلاح ولا لذَّة ولا سرور ولا فرح ولا سعادة بدون ذلك وتحقيق الصِّراط المستقيم؛ صراط الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبِيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، وغير ذلك ممَّا يتعلَّق بهذا الموضع الّذي في تحقيقه تحقيقُ مقصودِ الدَّعوة النَّبويَّة والرِّسالة الإلهية، وهو لبُّ القرآن وزبدتُه، وبيان التوحيد العلميِّ القوليِّ المذكور في قوله: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ﴾[الإخلاص: ١ ـ ٢]، والتَّوحيدِ القصديِّ العمليِّ المذكور في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾[الكافرون: ١]، وما يتَّصل بذلك؛ فإنَّ هذا بيانٌ لأصل الدَّعوةِ إلى الله وحقيقتِها ومقصودِها».
وهذا مقامٌ شريف، بل هو أشرفُ مقامٍ قامه الدَّاعي إلى سبيل ربِّه، وَلَوْ فَرَغْتُ له وجَرَّدْتُ قلمِي لَهُ خالصًا ما أدَّيْتُ ما يجب لله عليَّ فيه، وإنَّما أردتُ بهذه الفائدة أمرين:
الأول: استنهاض هِمَمِ الدَّاعين إلى الله نحو التَّوحيد وتعظيمِ شأنِه، لاسيما الزَّاهدين المزهِّدين للأمَّة فيه، والأمر يشتدُّ مع الَّذين اتَّخذوا من التَّقصير في هذا الجانب شعارًا لدعوتهم؛ زاعمين أنَّهم يتجنَّبون ما يملُّ النَّاس أو يجرح مشاعرَهم ولو كان هو حقُّ الله الخالص!!
فالتَّوحيد هو حقُّ الله الأعظم، ففي «الصحيحين» عن معاذ بن جبل، قال: قال النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ»، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟»، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ».
وقد نبَّه القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ في «الجامع لأحكام القرآن» (2/190) على نكتةٍ بديعةٍ في مناسبةِ قول الله تعالى: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة: 163] لآيةٍ قبلَها، وهي قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ﴾[البقرة: 159]، فقال: «لمَّا حذَّر تعالى من كتمان الحقِّ، بيَّنَ أنَّ أوَّل ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه التَّوحيد، وَوَصَلَ ذلك بِذِكْرِ البرهان».
الثاني: التَّذكير بأنَّ تفسير السَّلف هو أحسنُ تفسيرٍ، وإنْ نَبَتْ عنه أفهامُ النَّاس، كما رأينا في تفسير آية البَابِ، فهذه هي المحَجَّة البيضاء، وهؤلاء هم السَّالكون جادَّتها، فَخُذُوا طريقَها، والْزَمُوا فريقَها، والعاقبةُ للتَّقْوَى.