من طرف 44294 السنة 132-العدد 2008 مارس 15 7 من ربيع الأول 1429 هـ السبت
نفيسـة العـلم
وجدتني مع بشائر مولد الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه مستبشر بحفيدته التي فوجئت بتزامن ميلادها مع ميلاده صلي الله عليه وسلم, فقد ولدت في الحادي عشر من شهر ربيع الأول الموافق الأربعاء سنة خمس وأربعين ومائة من الهجرة النبوية
بل وتوفيت في مثل عمر رحيله في الثالثة والستين..
ويضيء في عيني الطريق لأقوم لساعتي أبحث في المكتبة عن نفيسة العلم كريمة الدارين,
وأبدا لا أذكر يوما اقتنيت فيه هذا الكتاب القديم بعنوانه السيدة نفيسة رضي الله عنها.. مطبعة دار التأليف8 شارع يعقوب بالمالية تليفون21825 الثمن20 قرشا.. ووجدتني فرحاً للالتفاف حولها في شوق لمعرفة تاريخها وأصلها ونسبها وقدومها إلي مصر ودور الإمام الشافعي في حياتها وسبب التصاق العلم باسمها نفيسة العلم وحب المصريين البالغ لها كواحدة من آل البيت الذين يجلهم أبناء مصر بالفطرة دونما انقسامات أو مذاهب وشيع أو شقاق أو خوارج أو ندم تدميه السلاسل حتي ليصبح اسمها نفيسة المصرية.
ذلك كله إذا ما ذكرت السيدة نفيسة. نفيسة الدارين. العالمة الفقيهة الورعة الطاهرة. السيدة نفيسة بنت حسن الأنور بن زيد الأبلج بن الإمام الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف.. نفيسة مصر والمصريين وقرة عين المسلمين أجمعين, من جاءت من نسل قوم عظمت السماء شأنهم, وأعلت الشريعة قدرهم, وخلد القرآن ذكرهم, ونزل الوحي في بيوتهم, وزارت الملائكة رحابهم, وجرت دماء النبي في عروقهم, وقال عنهم الرسول الكريم لسيدنا علي: ادن مني يا علي
خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن منها أدخله الله الجنة, ومن واحد من تلك الأغصان, غصن القرن الأول للهجرة جاءت نفيسة إحدي أغصان رياحين القرن الثاني الهجري.. السيدة التي جمعت إلي طهارة القلب شرف النسب, وإلي كثرة العلم نبل الصفات, وإلي حفظ القرآن الفقه في الدين والإلمام بأحكامه وتعاليمه والإحاطة بأسراره ومعانيه.. ساعة أن يذكر اسمها.. هي بالذات.. ينتفي الإعراض ويتفجر القبول علي جميع المستويات وفي كل الجهات.
من الوزير للغفير, ومن العسكر للحرامية, ومن السياسيين للمطربين, ومن العالم للجاهل, ومن ابن دمياط لابن الدلنجات, ومن ساكن الزمالك لنزيل العشوائيات, ومن المحجبة للسافرة.. وتعكس محبتها واليقين من كراماتها إحدي العقائد المصرية الراسخة في النفوس
نفيسة المصريين..
هي من أوصي الرسول صلي الله عليه وسلم بدفنها في مصر
قد حفرت قبرها في دارها بيدها لتبقي الميتة الحية
وجدتها.. قد أضاءت بنور علمها الأرجاء
وجدتها.. بنت الأمير وزوجة الأمير وحفيدة أمير المؤمنين
وجدتها.. زوجة تزوج زوجها عليها مرتين في الشام والمدينة
وجدتها.. الأم الثكلي من مات أبناؤها القاسم وأم كلثوم في حضنها
وجدتها.. الابنة التي تتخلي عن اللحاق بزوجها لرعاية الأب المريض
وجدتها.. تحج ثلاثين مرة سيرا علي الأقدام
وجدتها.. عاصرت المنصور و المهدي و الهادي و الرشيد والمأمون
وجدتها.. تحج لمقام إبراهيم فيوصيها في المنام بسورة المزمل
وجدتها.. طرحوا قناعها علي صفحة النيل عندما غاض فزاد وفاض
وجدتها.. مرجعا للأئمة
وجدتها.. تقرأ القرآن وتبكي
وجدتها.. شاعرة
وجدتها.. صابرة
وجدتها.. غداة كل مصيبة حامدة شاكرة
وجدت من شذرات أقوالها: الصبر يلازم المؤمن بقدر ما في قلبه من إيمان, وحسب الصابر أن الله معه وعلي المؤمن أن يستبشر بالمشاق التي تعترضه, فإنها سبيل لرفع درجته عند الله الذي جعل الأجر علي قدر المشقة, والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم وحذار من الغرور فلقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم حين تحفه الصحابة بألوان من التعظيم والتكريم يسجد علي تراب الأرض وإن الجهاد في طلب الرزق عبادة يدخر أجرها ليوم الحساب ولا يكمل حب المسلم لرسول الله صلي الله عليه وسلم إلا بمتابعته في جميع أعماله وأقواله.
ووجدتها حين شعرت بدنو أجلها تقول:
اصرفوا عني طبيبي.. ودعوني وحبيبي
لا أبالي بفوات.. حيث قد صار نصيبي
جسدي راض بسقمي.. وجفوني بنحيبي
نفيسة العلم.. أتقنت القراءة والكتابة وهي لم تبلغ السابعة في محيط كانت الأنثي توأد فيه من قريب, وقبل الثامنة حفظت القرآن علي يد أبيها وجودته, وتلقت في المسجد النبوي الشريف علوم الحديث والفقه من علمائه ومن بينهم الإمام مالك الذي قرأت له كتابه الموطأ واستوعبته, وكانت في مقدمة الذين يجلسون إليه من طلاب العلم الذين يفدون من سائر الأقطار الإسلامية, والتقت في مجلس أبيها الحسن بصفوة العلماء وخلاصة الفقهاء فتستمع إليهم وتروي عنهم.. و كانت تنشد الشعر, ومن قولها في حب جدها الأكبر محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم:
يا حبيب القلوب أنت الحبيب
أنت أنســي وأنت مـــني قريب
يا طـبيبـا بــذكــره يتـــــــداوي
كــل ذي سقــم فنعــم الطبيب
طلعت شمس مـن أحـب بلـي
واستنارت فمـا تلاها غــــروب
وإذا مـا الظـلام أســبـل سـت
فــإلي ربهــا تـحــــن القـــلـوب
نفيسة العلم عندما قدمت إلي مصر يوم السبت الموافق26 رمضان عام193م كان بيتها ندوة قائمة دائمة يحج إليها فحول العلماء وأئمة الفقهاء وشيوخ الزهاد وصفوة العارفين أمثال الإمام عبدالله بن الحكم صاحب الإمام مالك الذي نال رئاسة المالكية من بعده, والإمام عثمان بن سعيد المصري والشيخ أبوالفيض ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري من كبار الصوفية الذي استمر يزورها في حياتها ويزور قبرها من بعد وفاتها, والربيع بن سليمان المرادي الذي قال عنه الشافعي الربيع روايتي
وحدث أن انقطع بشر بن الحارث عن زيارتها وهو الحريص علي مجلس علمها فلما سألت عنه وعلمت بمرضه ذهبت لتعوده في داره, وهناك التقت بالإمام أحمد بن حنبل الذي سأل صاحب الدار عن شخصية السيدة فلما علم بها أحسن تحيتها وطلب من بشر مستبشرا أن يسألها الدعاء لهما فلم تخيب رجاءهما لتدعو قائلة: اللهم إن بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النار فأجرهما يا أرحم الراحمين.. وقد حضرت السيدة نفيسة إلي القاهرة قبل قدوم الإمام الشافعي إليها بخمس سنوات عندما نزل عند أخواله من الأزد قبيلة أمه أسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر إلي المدينة فنزل عند أخواله بني النجار..
وهو من آل المطلب أبناء عمومة الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ولد بغزة ونشأ بعسقلان وانتقل إلي مكة للتزود من العلم, ومن ضيق ذات يده كان يكتب العلم الذي يأخذه علي قطع الجلود وسعف النخيل.. ورحبت السيدة نفيسة بالشافعي القرشي الذي ينبض قلبه بحب آل البيت, ولقد جمع بينهما النسب وربطت بينهما القرابة والدماء, وزاد من تقدير السيدة للإمام علمه وورعه فكانت الحريصة علي أن تكون في مجلسه تسمع رأيه في الفقه واجتهاده في فهم نصوص الدين, ولشدة ثقتها به طلبت منه أن يكون إماما لها يصلي بها الفرائض فأجابها, ويأتي رمضان وحرصها فيه علي الصيام والقيام فطلبت منه أن يؤمها في صلاة التراويح فلبي الإمام
وكانت دارها كريمة الدارين بمثابة الجزيرة الآمنة له وسط بحر صاخب متلاطم الأمواج حتي كان من عادته أن يزورها وهو في طريقه إلي حلقات درسه في مسجد الفسطاط وفي طريق عودته إلي داره, وفي غير ذلك من الأوقات.. ولما ثارت الضغينة ضد الإمام الشافعي وقام أتباع الإمام مالك يطالبون الحاكم بإخراجه من مصر وإلا كانت فتنة عمياء, وللأسف قد استجاب الحاكم لطلبهم, فأنذر الشافعي بالخروج من البلاد بعد ثلاثة أيام, ووقفت السيدة نفيسة إلي جانبه وأصرت علي بقائه, وهنا تدخلت الأقدار حيث لم تمض هذه الأيام الثلاثة حتي مات الحاكم وبقي الشافعي إماما للبلاد, فهل كانت هذه إحدي كرامات السيدة أم كانت كرامة للإمام؟!
وكان إذا ما أصابه مرض يجعله يتخلف عن زيارتها يرسل رسولا من تلاميذه فيقرؤها سلامه قائلا: إن ابن عمك الشافعي مريض ويسألك الدعاء فتقول عليه بالسبع المنجيات من آيات الذكر الحكيم, وترفع وجهها للسماء تدعو له فلا يعود رسوله إلا وقد عوفي الإمام, ولما مرض مرضه الأخير أرسل لها كعادته يلتمس الدعاء فقالت لرسوله: متعه الله بالنظر إلي وجهه الكريم.. فعلم الإمام الشافعي بدنو أجله ليوصي بأن تصلي عليه السيدة نفيسة, ولما توفي في عام204 هـ مروا بجنازته علي بيتها فصلت عليه مأمومة وإمامها أبو يعقوب البويطي أحد أصحاب الإمام
وكان مرور جنازة الشافعي بدارها بأمر من السري أمير مصر لأنها سألته في ذلك تنفيذا لوصية الإمام ولأنها لا تتمكن من الخروج لضعفها من كثرة العبادة, وجاء ذكر الشافعي بعد وفاته في مجلس السيدة نفيسة لتمتدحه وتترحم عليه بقولها: رحم الله الشافعي فقد كان رجلا يحسن الوضوء.. مات الإمام الشافعي فقيرا ولم يبلغ الرابعة والخمسين ودفن بالقرافة الصغري بالقاهرة.
في يوم مولدها طغت الفرحة علي حسن الأنور بقدوم الابنة الأنثي من زوجته أم ولد من بعد عشرة من الذكور من زوجته أم سلمة وذلك لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم من كانت له ثلاث بنات يؤدبهن ويكفلهن ويرحمهن وجبت له الجنة فسأله بعض الصحابة ولو كانت اثنتين؟ فقال ولو كانت اثنتين؟ فقالوا: ولو كانت واحدة؟ فقال النبي ولو كانت واحدة.. فعندما زفت إلي الأنور بشراها أسماها نفيسة لأنها بمثابة الدرة النفيسة, وتيمنا بعمتها أخته السيدة نفيسة بنت زيد التي تزوج بها الخليفة الوليد بن عبدالملك بن مروان الأموي التي جاءت إلي مصر مع زوجها حين كان واليا عليها قبل توليه الخلافة لتمكث بعد طلاقها منه عند ابنة عمها السيدة سكينة بنت الإمام الحسين قبل مجيء السيدة نفيسة الصغري لمصر بوقت طويل
ودفنت بدارها المسماة باسم المعبد شمال مصر القديمة الشرقي, حيث لا يعرف الكثيرون أن بمصر نفيستين الكبري والصغري.. ولم يكد الأب يبرح مكانه بالكعبة المشرفة بعد بشري مولودته حتي جاءته البشري الأخري بإسناد ولاية المدينة المنورة إليه مع منحة قدرها عشرون ألف درهم.. ويبلغ الركب آفاق المدينة ليستقبل أهلها حفيد الرسول بأصداء ذكريات ما استقبلوا به الرسول الكريم عند هجرته بطلع البدر علينا من ثنيات الوداع ووجب الشكر علينا ما دعا لله داع.. ويحمل الحسن نفيسته في الخامسة إلي الروضة الشريفة قائلا: يا رسول الله هذه ابنتي وأنا أحبها وراض عنها فلتشملها منك النفحات ويري الحسن النبي الكريم في منامه يقول له: إني راض عن ابنتك برضاك عنها, والحق سبحانه راض عنها برضائي عنها..
وتلازم الابنة أبيها في حلقات العلم ويشركها معه في نسكه وعباداته.. وتتفتح المدارك وتنضج الأنوثة ليفيض اكتمالها علي النفيسة بهاء وجمالا مما جعل خطابها ولاسيما من شباب آل البيت لا ينقطع قدومهم, بينما الوالد يلقاهم قاطعا برفضه: إني أريد أن أؤدي الأمانة إلي أهلها, وأرد القطرة إلي بحرها, وأغرس الوردة في بستانها.. واستنهض همته خيرة شباب الأسرة العلوية اسحاق بن جعفر الصادق المعروف باسم اسحاق المؤتمن ــ من أشبه الناس برسول الله صلي الله عليه وسلم ــ بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب
وذهب إلي أبيها يخطب ابنة العم وشريكة الطفولة ورفيقة الصبا, فأتاه الرفض المعلن للجميع, فانصرف إلي مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم يقف في محرابه الميمون يبث لوعته, وأتي الصباح ليرسل له الحسن والد نفيسة يخبره بعدوله عن رفضه بعدما رأي الرسول صلي الله عليه وسلم يقول له في المنام: زوج نفيسة يا حسن من اسحق المؤتمن.. وتم عقد القران في يوم الجمعة من شهر رجب سنة إحدي وستين ومائة هجرية والعروس في سن الخامسة عشر ليجتمع فرعان من شجرة النبوة ويذوب معدن الحسن والحسين معا وتلتقي ذرية النبي وسلالة علي وأحفاد خديجة وفاطمة الزهراء.
سافر إسحاق تصحبه زوجته إلي مكة المكرمة ليستقر بهما المقام حيث الكعبة الشريفة والمسجد الحرام لتهيم نفسها بزيارة مقام خليل الله إبراهيم, ولم يهدأ شوقها حتي صحبها إسحاق إلي مزاره المبارك في مدينة الخليل بفلسطين, وبعدها إلي دمشق مستقبلة بجموع العلماء الذين هرعوا لالتماس بركاتها, وتذهب هناك لزيارة مقام زينب بنت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب, وقبر عمتها فاطمة بنت الحسن بن علي.. وفي الشام تاقت لزيارة مصر حرم الأمان فقدمت مع زوجها إسحاق وأبيها الحسن الأنور أثناء ولاية الحسن بن البحباح والي مصر من قبل الرشيد الخليفة العباسي, وكانت شهرتها قد سبقتها ليخرج إليها الناس لاستقبالها علي أبواب مصر عند العريش في أفراح لم يسبق لها مثيل اشترك فيها مئات الرجال وكانت النساء في الهوادج بأعداد لا تحصي, وحطت السيدة نفيسة الرحال عند رجل من كبار التجار اسمه جمال الدين عبدالله الجصاص.. ويطلب الزوج من زوجته بعدها مرافقته للمدينة التي أصبح واليا عليها فتستأذنه في البقاء لرعاية أبيها المريض, وتحين ساعة رحيل اسحاق عن أولاده الباكين المتشبسين في المشهد الحزين الذي يعينها عليه بقوله:
عدي السنين لغيبتي وتصبري ودعي الشهور فإنهن قصار
فتجيبه وقد خانها الصبر:
لا تنس حاجتنا إليك وضعفنا واذكر بناتك إنهن صغار
وفي غربة الأب تمرض الابنة أم كلثوم وتموت ومن بعدها شقيقها الصغير قاسم لتنعيه الأم الثكلي: ألا تلك المسرة لا تدوم ولا يبقي علي الدهر النعيم, ولا يعود اسحاق رغم مراسيلها إليه وكان قد تزوج وأنجب في المدينة.. ويستغيث الناس من ظلم ابن طولون بالسيدة الطاهرة ــ كما ذكر القرماني في تاريخه وصاحب الغرر وصاحب المستطرف ــ فسألتهم عن موعد موكبه فقالوا في الغد, فكتبت إليه رقعة ووقفت تعترض في الغد طريقه, فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه وأخذ منها الرقعة التي جاء فيها ملكتم فأسرتم, وقدرتم فقهرتم, وخولتم ففسقتم
وردت إليكم الأرزاق فقطعتم, هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة لاسيما من قلوب أوجعتموها, وأكباد جوعتموها, وأجساد عريتموها, فمحال أن يموت المظلوم ويبقي الظالم, اعملوا ما شئم فإنا صابرون, وجوروا فإنا بالله مستجيرون, واظلموا فإنآ إلي الله متظلمون, وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال: فعدل لوقته.. ويزدحم البيت بوفود الزائرين يرجون دعاء السيدة نفيسة ويبتغون كراماتها.. ويذكر الأجهوري في مشارق الأنوار: أن السيدة جوهرة جارية السيدة نفيسة, أخذت إبريق السيدة تملؤه, فوضعته
فجاء ثعبان يتمسح برأسه كأنه يتبرك به.. وينمو إلي علم أمير مصر السري بن الحكم رغبتها في الرحيل إلي المدينة فيركب إليها يسألها البقاء فتقول: إني امرأة ضعيفة وقد شغلني الناس عن أذكاري وعبادة ربي, كما أن المكان قد ضاق بالجموع الكثيفة فيهبها السري دارا واسعة علي أن تخصص يوم السبت والأربعاء لتلك الجموع وتتفرغ بقية الأيام للعبادة, وتقبل السيدة التي يحبب لها البقاء في مصر بعد أن رأت النبي صلي الله عليه وسلم في المنام يقول لها: لا ترحلي عن مصر فإن الله متوفيك فيها..
ويرحل الإمام الشافعي وتحفر السيدة نفيسة قبرها لتصلي فيه وتختم القرآن مائة وتسعين ختمة, وترسل إلي زوجها اسحاق المؤتمن تطلب منه موافاتها لإحساسها بدنو أجلها لكنه لا يأتي أيضا, ويشتد بها المرض, وتروي زينب بنت أخيها ومرافقتها: تألمت عمتي في أول يوم من رجب ومازالت كذلك إلي أول جمعة في رمضان فزاد بها الألم وهي صائمة وأشار إليها الأطباء بالإفطار لحفظ القوة لما رأوا من الضعف الذي أصابها, فقالت واعجباه لي ثلاثون سنة أسأل الله عز وجل أن يتوفاني صائمة, فأفطر؟! معاذ الله
ثم إنها بقيت كذلك إلي العشر الأواسط من شهر رمضان فاحتضرت, واستفتحت بقراءة سورة الأنعام, فمازالت تقرأ إلي أن وصلت إلي قوله تعالي قل لله كتب علي نفسه الرحمة, وغشي عليها فضممتها إلي صدري فتشهدت بشهادة الحق وفاضت روحها الكريمة, ولقد خدمت عمتي السيدة نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت بليل ولا أفطرت بنهار, إلا العيدين وأيام التشريق.. وكانت تأكل كل ثلاثة أيام مرة, ولها سلة معلقة أمام مصلاها, كلما اشتهت شيئا وجدته في السلة..
وكانت الراحلة الكريمة قد أوصت بأن يضمها قبرها الذي حفرته بيديها بعد وفاتها علي ألا يعدها لقبرها إلا زوجها اسحاق المؤتمن الذي حضر مصمما علي دفنها في البقيع مع أمها الزهراء وأبيها الحسن, ولكن المصريين حالوا بينه وبين ما يريد, وحملوا له من الأموال حمل بعير فأبي إلا نقلها فتشفعوا إليه بالأمير الحاكم فلم يقبل شفاعته, وبات الناس حول قبرها حتي الصباح أفواجا تدعو وتبتهل إلي الله ببركة كريمة الدارين ألا يريهم ساعة فراقها مرتين
وقضي الله بأن تظل السيدة نفيسة بركة مصر والمصريين وقرة عين المسلمين أجمعين.. قضي أن تظل في قبرها الذي حفرته بيدها وأضاءته بقرآنها وصلواتها.. وأشرق نور الصبح ليقبل اسحاق مشرقا ــ وهو الذي قيل عنه إنه لم ير أبدا ضاحكا ــ ليقول للجمع الحزين والله لقد رأيت الرسول في منامي قائلا لي: دع نفيسة بنت الحسن للمصريين.. وكان يوم دفنها مشهودا ليظل مسجدها علي مدي تاريخه يحظي باهتمام العلماء والأمراء والحكام الذين تعاقبوا علي مصر فمنهم من جدد المقام ومن وسع المسجد حتي وصلت مساحته إلي ما يزيد علي ألفي متر بعد أن كان مجرد حجرة في الدار, ولم يكن كافور الأخشيدي إلا زائرا مستديما لمقامها يهرع لقبرها يسأل الله قضاء حوائجه ويفي بالنذر وينثر الطيب ويحن علي الفقير, ومعروف عن خديو مصر عباس حلمي الثاني أنه كان من مريدي السيدة نفيسة وهو الذي قام بتجديد مسجدها وأقام في هذه المناسبة احتفالا كبيرا حضره الأمراء والعلماء والأعيان ليظل مسجدها يومها يعج بالناس حتي صباح اليوم التالي لتوافد الزائرين من شتي أنحاء مصر.. جاءوا لنفيسة المصريين.
ولأنه أوصي.. الإمام الشافعي.. بأن تصلي عليه بعد وفاته, جاءوا إليها به وصلت عليه.. وعندما رحلت كريمة الدارين كتب علي باب مقامها الطاهر قول الإمام:
يا أهل بيت رسول الله حبكمو فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكموا من عظيم القدر أنكمو من لم يصل عليكم لا صلاة له
